لا يستطيع من يدرس موقف العلماء - منذ عصر الصحابة إلى أن تم تدوين السُنَّةِ - من الوضع وَالوَضَّاعِينَ وجهودهم في سبيل السُنّةِ وتمييز صحيحها من فاسدها، إلا أن يحكم بأن الجهد الذي بذلوه في ذلك لا مزيد عليه، وأن الطرق التي سلكوها هي أقوم الطرق العلمية للنقد والتمحيص، حتى لنستطيع أن نجزم بأن علماءنا - رَحِمَهُمْ اللهُ -، هم أول من وضعوا قواعد النقد العلمي الدقيق للأخبار والمرويات بين أمم الأرض كلها، وأن جهدهم في ذلك جهد تفاخر به الأجيال وتتيه به على الأمم، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم.
وإليك بيان الخطوات التي ساروها في سبيل النقد حتى أنقذوا السُنَّةَ مِمَّا دُبِّرَ لها من كيد، ونظفوها مِمَّا علق بها من أوحال.
أَوَلاً - إسناد الحديث: لم يكن صحابة رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد وفاته يشك بعضهم في بعض كما رأيت، ولم يكن التابعون يتوقفون عن قبول أي حديث يرويه صحابي عن رسول الله، حتى وقعت الفتنة وقام اليهودي الخاسر عبد الله بن سبأ بدعوته الآثمة التي بناها على فكرة التشيع الغالي القائل بألوهية عَلِيٍّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ -، وأخذ الدَسُّ عَلَى السُنَّةِ يربو عصراً بعد عصر، عندئذ بدأ العلماء من الصحابة والتَّابِعِينَ يتحرون في نقل الأحاديث ولا يقبلون منها إلا ما عرفوا طريقها وَرُوَّاتِهَا، واطمأنوا إلى ثقتهم وعدالتهم. يقول ابن سيرين فيما يرويه عنه الإمام مسلم في " مقدمة صحيحه ": «لَمْ يَكُونُوا يَسْأَلُونَ عَنِ الإِسْنَادِ، فَلَمَّا وَقَعَتِ الفِتْنَةُ قَالُوا: سَمُّوا لَنَا رِجَالَكُمْ. فَيُنْظَرُ إِلَى أَهْلِ السُنَّةِ فَيُؤْخَذُ حَدِيثُهُمْ، وَيُنظَرُ إِلَى أَهْلِ البِدَعِ فَلاَ يُؤْخَذُ حَدِيثُهُمْ» وقد ابتدأ هذا التثبت منذ عهد صغار الصحابة