أما قيام المذاهب بعد القرن الأول وَتَعَدُّدِهَا، فذلك بلا شك أثر للكتاب وَالسُنَّةِ، ولمدارس الصحابة في فهم كتاب اللهِ وَالسُنَّةِ، أما الكتاب فقد كان محفوظاً متواتراً بينهم، وأما السُنَّةُ فلا ترى قولاً لإمام من أئمة المذاهب في القرنين الثاني والثالث، إلاَّ وقد سبقه إليه صحابي أو تابعي، وذلك قبل أنْ يَتَطَوَّرَ الدِّينُ - كما زعم هذا المستشرق - تَطَوُّرًا بالغ الأثر، وفي هذا ما يقضي على الشُبْهَةِ من أساسها.
أما ما استند إليه بعد ذلك على وجهة نظره فسنرى أنها كبناء قام على أساس من جُرْفٍ هَارٍ، وستنهار أمام نظرك واحدة بعد أخرى بفضل الله.
١ - مَوْقِفُ الأُمَوِيِّينَ مِنَ الدِّينِ:
يقيم المستشرق جولدتسيهر أساس نظريته على مدى الخلاف الذي زعم أنه كان قائماً بين الأُمَوِيِّينَ (والعلماء الأتقياء)، وقد حرص على أنْ يُصَوِّرَ لنا الأُمَوِيِّينَ جماعة دُنْيَوِيِّينَ ليس لهم هَمٌّ إِلاَّ الفتح والاستعمار، وأنهم كانوا في حياتهم العادية جاهلين لا يمتون إلى تعاليم الإسلام وآدابه بِِصِِلَةٍ، وهذا افتراء على الواقع والتاريخ، ومن المُسَلَّمِ به أنَّ ما بين أيدينا من نصوص التاريخ التي تمثل لنا العصر الأموي، إنما وضعت في العصر العباسي وقد كان عصراً مُشْبَعاً بالعداوة لِبَنِي أُمَيَّةَ، فَتَزَيَّدَ فيه الرُّوَاةُ الإخباريون ما شاؤوا، ولعبت الشائعات التي أثارها صنائع العباسيِّين عن الأُمَوِيِّينَ وخلفائهم دوراً خطيراً في التاريخ، إذ احتلت مكانتها في الكتب، وغدت حقائق في نظر كثير من الناس، وهي لا تعدو أنْ تكون أخباراً تناقلتها الأَلْسِنَّة دُونَ تحقيق، وهي من وضع صنائع العباسيِّين وغُلاَةُ الشِّيعَةِ والروافض، فلا يصح الاعتماد بدون تمحيص على كتب الأخبار والتاريخ فيما يتعلق بِالأُمَوِيِّينَ.
هذا شيء، وشيء آخر أنه حتى في هذه الحالة فإنا نجد نصوصاً كثيرة تُكذِّبُ ما رَمَى به هذا المستشرق خلفاء بني أميَّة من انحراف عن الإسلام وَتَحَدٍّ لأحكامه، فابن سعد يروي لنا في " طبقاته " عن نُسُكِ عبد الملك وتقواه قبل الخلافة ما جعل الناس يُلَقِّبُونَهُ بحمامة المسجد، حتى لقد سئل ابن عمر: أرأيت إذا تفانى أصحاب رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - من نسأل؟ فأجابهم:«سَلُوا هَذَا الفَتَى».