بتلك الجهود المُوَفَّقَةِ التي سردناها عليك بإيجاز استقام أمر الشريعة بتوطيد دعائم السُنَّةِ التي هي ثاني مصادرها التشريعية، واطمأن المُسْلِمُونَ إلى حديث نبيهم فأقصي عنه كل دخيل، وَمُيِّزَ بين الصحيح والحسن والضعيف، وصان الله شرعه من عبث المفسدين وَدَسِّ الدَسَّاسِينَ وتآمر الزنادقة وَالشُعُوبِيِّينَ، وقطف المُسْلِمُونَ ثمار هذه النهضة الجبارة المباركة التي كان من أبرزها ما يلي:
أَوَّلاً - تَدْوِينُ السُنَّةِ:
قَدَّمْنَا أَنَّ السُنَّةَ لَمْ تُدَوَّنْ رَسْمِيًّا في عهد رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، كما دُوِّنَ القرآن، إنما كانت محفوظة في الصدور نقلها صحابة الرسول إلى من بعدهم من التَّابِعِينَ مشافهة وتلقيناً، وإن كان عصر النَّبِيِّ لم يخل من كتابة بعض الحديث، كما قَدَّمْنَاهُ لك في بحث كتابة السُنَّةَ، ولقد انقضى عصر الصحابة ولم تُدَوَّنْ فيه السُنَّةُ إلا قليلاً، إنما كانت تتناقلها الألسن. نعم لقد فكر عمر - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - بتدوين السُنَّةِ ولكنه عدل عن ذلك، فقد أخرج البيهقي في "المدخل " عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَرَادَ أَنْ يَكْتُبَ السُّنَنَ، فَاسْتَشَارَ فِي ذَلِكَ أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ، فَأَشَارُوا عَلَيْهِ أَنْ يَكْتُبَهَا، فَطَفِقَ عُمَرُ يَسْتَخِيرُ اللَّهَ فِيهَا شَهْرًا، ثُمَّ أَصْبَحَ يَوْمًا وَقَدْ عَزَمَ اللَّهُ لَهُ، فَقَالَ:«إِنِّي كُنْتُ أَرَدْتُ أَنْ أَكْتُبَ السُّنَنَ، وَإِنِّي ذَكَرْتُ قَوْمًا كَانُوا قَبْلَكُمْ كَتَبُوا كُتُبًا فَأَكَبُّوا عَلَيْهَا وَتَرَكُوا كِتَابَ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنِّي - وَاللَّهِ - لاَ أُلْبِسُ كِتَابَ اللَّهِ بِشَيْءٍ أَبَدًا»(١).