وعذره الذي أوضحه يتفق مع الظرف الذي كان فيه المُسْلِمُونَ، إذ كان القرآن غضاً طرياً، والأمم تدخل في دين الله أفواجاً، فلا بد من توفرهم على كتاب الله حفظاً ودراسةً وتلاوةً حتى يكون الأساس لعقيدتهم والحامي لها من كل لُبْسٍ وَتَغْيِيرٍ، واستمر الأمر كذلك إلى أن وقعت الفتنة، وانتشر الكذب في الحديث ونهض أجلاء التَّابِعِينَ فمن بعدهم لمقاومة حركة الوضع، وقاموا بتلك الجهود الجليلة التي تحدثنا عنها، وقد كان من أول ثمار هذه الجهود أن دَوَّنُوا السُنَّةَ خوفاً عليها من الضياع، وصيانة لها من التَّزَيُّدِ والنقصان.
وتكاد تجمع الروايات أن أول من فكر بالجمع والتدوين من التَّابِعِينَ عمر بن عبد العزيز، إذ أرسل إلى أبي بكر بن حزم عامله وقاضيه على المدينة «انْظُرْ مَا كَانَ مِنْ حَدِيثِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاكْتُبْهُ، فَإِنِّي خِفْتُ دُرُوسَ العِلْمِ، وَذَهَابَ العُلَمَاءِ» وطلب منه أن يكتب له ما عند عَمْرَةَ بِنْتَ عَبْدِ الرَحْمَنِ الأَنْصَارِيَّةَ (٩٨ هـ) والقاسم بن محمد بن أبي بكر (١٠٦ هـ) والذي يظهر أنه لم يخص ابن حزم بهذا العمل الجليل، بل أرسل إلى ولاة الأمصار كلها وكبار علمائها يطلب منهم مثل هذا، فقد أخرج أبو نعيم في " تاريخ أصبهان " أَنَّ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ العَزِيزِ كَتَبَ إِلَى أَهْلِ الآفَاقِ: «انْظُرُوا إِلَى حَدِيثِ رَسُولِ اللهِ فَاجْمَعُوهُ»(١) وبذلك نَفَّذَ عمر رغبة جَدِّهِ عمر بن الخطاب التي جاشت في نفسه مُدَّةً ثم عدل عنها خوفاً من أن تلتبس بالقرآن أو يصرف الناس إليها، والذي يظهر أن أبا بكر بن حزم كتب لعمر شيئاً مِنَ السُنَّةِ فقد أنفذ إليه ما عند عَمْرَةَ والقاسم، ولكنه لم يُدَوِّنُ كل ما في المدينة من سُنَّةٍ وَأَثَرٍ، وإنما فعل هذا الإمام محمد بن مسلم بن شهاب الزُّهْرِيِّ (١٢٤ هـ) الذي كان عَلَماً خفَّاقاً من أعلام السُنَّةِ في عصره والذي كان عمر بن عبد العزيز يأمر جلساءه أن يذهبوا إليه لأنه لم يبق على وجه الأرض أحد أعلم بِالسُنَّةِ منه، والذي ذكر " مسلم " أن له تسعين حَدِيثًا لا يرويها غيره، وذكر كثيراً من أئمة العلم في عصره أنه لولا الزُّهْرِيِّ لضاعت كثير من السُنَنِ هذا مع وجود الحسن البصري في عصر
(١) وفي رواية الخطيب في "تقييد العلم " أنه كتب بذلك إلى أهل المدينة.