كان أعلم أهل زمانه بِالسُنَّةِ، وقد نقلنا قول غير واحد من أئمة الحديث أنه لولاه لضاعت أشياء كثيرة مِنَ السُنَّةِ، واعترف مُسْلِمٌ له بأنه يروي تسعين حَدِيثًا لا يرويها غيره، فيكون معنى قوله لإبراهيم، هو: ومن يعلم بهذه الأحاديث غيري حتى يجيزك بها؟ وليس معناه أنه لا يجرؤ أحد من المُسْلِمِينَ أن يبيح له وضع الأحاديث غيري ..
ثَالِثاًً - إن إبراهيم هذا لم ترو له كُتُبُ السُنَّة عندنا شيئاً، ولم تذكره كتب الجرح والتعديل، لا في الثقات ولا في الضعفاء والمتروكين، فأين هذه الأحاديث التي نشرها على الناس بإذن من الزُّهْرِيِّ؟ وأين موضعها من كُتُبِ السُنَّة؟ ومن رواها عنه؟ وكيف اختفت هذه الصحيفة فلم يبق لها مكان في كتاب التاريخ؟.
ثم زعم جولدتسيهر أَنَّ الزُّهْرِيَّ اعترف اعترافاً خطيراً في قوله الذي رواه عنه معمر:«إِنَّ هَؤُلاَءِ الأُمَرَاءِ أَكْرَهُونَا عَلَى كِتَابَةِ أَحَادِيثَ» وأن ذلك يفهم استعداد الزُّهْرِيِّ لأَنْ يَكْسُو رَغَبَاتِ الحكومة باسمه المعترف به عند الأمة الإسلامية.
قدمنا لك عند الحديث عن صدق الزُّهْرِي وجرأته، أنه أبعد الناس عن الرضوخ لأهواء الحاكمين، وذكرنا لك من الوقائع التاريخية بينه وبين خلفاء بني أمية ما تجزم معه بأنه ليس ذلك الرجل المستعد لأن يَكْسُو رَغَبَاتِ الحكومة باسمه المعترف به عند المُسْلِمِينَ.
أما هذا النص الذي نقله ففيه تحريف مُتَعَمَّدٌ يقلب المعنى رأساً على عقب، وأصله كما في ابن عساكر وابن سعد: أن الزُّهْرِي كان يمتنع عن كتابة الأحاديث للناس - ويظهر أنه كان يفعل ذلك ليعتمدوا على ذاكرتهم، وَلاَ يَتَّكِلُوا على الكتب كما ذكرنا من قبل - فلما طلب منه هشام وَأَصَرَّ عَلَيْهِ أَنْ يُمْلِي على ولده ليمتحن حفظه كما تقدم، وأملى عليه أربعمائة حديث، خرج من عند هشام وقال بأعلى صوته: «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا كُنَّا مَنَعْنَاكُمْ أَمْرًا قَدْ بَذَلْنَاهُ الآنَ لِهَؤُلاَءِ، وَإِنَّ هَؤُلاَءِ الأُمَرَاءِ أَكْرَهُونَا عَلَى كِتَابَةِ (الأَحَادِيثِ) فَتَعَالَوْا حَتَّى أُحَدِّثَكُمْ بِهَا فَحَدَّثَهُمْ بِالأَرْبَعِمِائَةَ الحَدِيث». هذا هو النص التاريخي لقول الزُّهْرِي، وقد رواه الخطيب بلفظ آخر