ثم استدل المستشرق لتأييد قوله بما قدح به بعض العلماء «فمن ذلك: قول المُحَدِّثِ أبي عاصم النبيل: «مَا رَأَيْتُ الصَّالِحَ يَكْذِبُ فِي شَيْءٍ أَكْثَرَ مِنَ الْحَدِيثِ»، ويقول مثل ذلك يحيى بن سعيد القطان، ويقول وكيع عن زياد بن عبد الله البَكَّائي:«إِنَّهُ - مَعَ شَرَفِهِ فِي الحَدِيثِ - كَانِ كَذُوباً»(وقد سبق إنكار ابن حجر ورود هذه الكلمة فيه). ويقول يزيد بن هارون:«إن أهل الحديث بالكوفة في عصره ما عدا واحداً كانوا مدلِّسين حتى السفيانان ذُكرا في المُدَلِّسِينَ».
قدَّمنا لك في أوائل هذه الرسالة جهود العلماء لمقاومة الوضع والوَضَّاعِينَ وأنه كان من مظاهر هذه الجهود نقد الرُواة نقداً دقيقاً وتصنيفهم إلى من يقبل حديثه، ومن يُرَدُّ ومن يتوقف فيه، وأنهم حصروا الوَضَّاعِينَ في فئات، منهم الزاهدون والجَهَلة الذين حملهم جهلُهُم على وضع الحديث عن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - احتساباً وحُسْن نية ... وقد كشف العلماء أمرهم، وبيَّنوا حقيقتهم، حتى لا يخدع الناس بمظاهر صلاحهم عن غفلة قلوبهم، ومن ذلك ما ذكره هذا المستشرق من قول أبي عاصم:«مَا رَأَيْتُ الصَّالِحَ يَكْذِبُ فِي شَيْءٍ أَكْثَرَ مِنَ الْحَدِيثِ». فإنه واضح أنه ليس المراد منه الصلاح الحقيقي الذي يتمثل في صلاح العلماء وأئمة الدين وحُفاظ الحديث، بل هو ذلك الصلاح الذي تحدثنا عنه، وإلا لكان يجب أن يكون سعيد بن المسيب وعروة والشافعي ومالك وأحمد وأبو حنيفة والحسن والزُّهْرِي من أكذب الناس في الحديث، ومن يقول هذا؟ ويدلك على ذلك قول يحيى بن سعيد القطان الذي قال بمثل ما قال أبو عاصم قد ذكره مسلم في " مقدمة صحيحه " وهو يتحدث عن وجوب الاحتياط في قبول الأخبار وعدم الأخذ مِمَّنْ كثر غلطه وساءت عقيدته وعرفت غفلته، كهؤلاء الصالحين، ثم قال مسلم بعد ما ذكر قول يحيى بن سعيد القطان: أي يجري الكذب على لسانهم ولا يتعمدونه. فهل ترى مسلماً يريد بالصالحين هنا أئمة الحديث الثقات المُتَثَبِّتِينَ فيكونوا كَذَّابِينَ؟ أم يُخرج هؤلاء المُحَدِّثِين الثقات عن حظيرة الصلاح فيكون البخاري وأحمد والأوزاعي ومسلم نفسه غير صالحين؟ واسمع تفسيراً آخر للصالحين غير ما ذكرناه من قبل. قال الشعراني في " العهود الكبرى ": وسمعت شيخنا شيخ الإسلام زكريا - رَحِمَهُ اللهُ - يقول: «إنما قال