لقد تتبع عُلَمَاؤُنا الوَضَّاعِينَ في الحديث، وَرَمَوْهُمْ بالزندقة وَالفُسُوقِ، فلم يعجب المستشرق هذا الوصف، بل أطلق عليهم لقب «العلماء الأتقياء» ثم زاد على ذلك أنَّ مَقَرَّهُمْ كان في المدينة، وما كان في المدينة حقاً إلاَّ كل عالم وتقي، ولكن بالمعنى الذي يفهمه المُسْلِمُونَ: من العلم والتقوى، وهو الاجتهاد في دين الله والصدق في شريعته، ومحاربة الكَذَّابِينَ وَالوَضَّاعِينَ، لا بالمعنى الذي يفهمه هذا المستشرق: وهو الدَسُّ في حديث رسول الله والافتراء عليه دِفَاعاً عن دينه.
ثم يقول هذا المستشرق اليَهُودِي:«ونظراً لأنَّ ما وقع في أيديهم - أي العلماء - من ذلك لم يكن ليسعفهم في تحقيق أغراضهم، أخذوا يخترعون من عندهم أحاديث رأوها مرغوباً فيها ولا تنافي الروح الإسلامية، وَبَرَّرُوا ذلك أمام ضمائرهم بأنهم إنما يفعلون هذا في سبيل محاربة الطغيان والإلحاد وَالبُعْدِ عن سُنَنِ الدين».
هكذا يُبَرِّرُ جولدتسيهر وضع علمائنا للحديث .. وهو قول من لم يصل ولن يصل إلى مدى السُمُوِّ الذِي يَتَّصِفُ به علماؤنا الأثبات، ولا المَدَى الذي وصلوا إليه في الترفع عن الكذب حتى في حياتهم العادية، ولا مبلغ الخوف الذي استقر في نفوسهم بجنب الله خِشْيَةً وَرَهْبَةً، ولا مَدَى استنكارهم لجريمة الكذب على رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، حتى قال منهم من قال بكفر من يفعل ذلك وقتله وعدم قبول توبته، إنَّ هذا المستشرق معذور إذا لم يفهم عن علمائنا هذه الخصائص، لأنه لا يجد لها ظلاً في نفسه ولا فيما حوله، ومن اعتاد الكذب ظَنَّ في الناس أنهم أكذب منه، وَاللِّصُّ يظن جميع الناس لُصُوصًا مثله ... وإلاَّ فمن الذي يقول: إنَّ مثل سعيد بن المسيب الذي تَعَرَّضَ للضرب والإهانة والتنكيل، حتى لا يبايع بيعتين في وقت واحد فيخالف بذلك سُنَّةََ رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يستبيح بعد ذلك لنفسه أنْ يكذب ليدافع عن سُنَّةِ رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ ومن الذي يرضى لنفسه أنْ يَتَّهِمَ قوماً جاهروا بالإنكار على بعض وُلاَّتِهِمْ لأنهم خالفوا بعض أحكام السُنَّةِ، بأنهم استجازوا لأنفسهم بعد ذلك أنْ يضيفوا إلى السُنَّةِ أحكاماً لَمْ يَقُلْهَا