للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

٧ - لقد كان من أثر العوامل السابقة مجتمعة، أن تناقل الناس أشياء عن أبي حنيفة، منها ما لا ظل له من الحق، ومنها ما لم يفهمه الناس على حقيقته من طرائق أبي حنيفة في الاجتهاد، ولقد وصل ذلك إلى أسماع العلماء البعيدين عن أبي حنيفة كما بلغتهم بعض فتاويه التي خالفهم فيها وهم لا يعرفون وجهاً لمخالفته إياهم مع اعتقادهم بأن ما بين أيديهم من الآثار يخالف ما أثر عنه، فتنطلق ألسنتهم أحياناً بما ينم عن سوء رأيهم فيه، ولكن سرعان ما يرجعون إلى الحق فيه حين يجتمعون به ويطلعون على وجهة نظره، ويرون من دينه ودقة فهمه ما يحملهم على الثناء عليه، انظر إلى ما ذكره صاحب " الخيرات الحسان ": مِنْ أَنَّ الأَوْزَاعِيَّ كَانَ يُسِيءُ الظَنَّ بِأَبِي حَنِيْفَةَ حِينَ بَدَأَ يَشْتَهِرُ أَمْرُهُ، وَلَمْ يَكُنْ قَدْ اجْتَمَعَ بِهِ بَعْدُ، حَتَّى قَالَ مَرَّةً لِعَبْدِ اللهِ بْنِ المُبَارَكِ: «مِنْ هَذَا المُبْتَدِعُ الذِي خَرَجَ بِالكُوفَةِ، وَيُكَنَّى أَبَا حَنِيفَةَ؟» فَلَمْ يُجِبْهُ ابْنُ المُبَارَكِ، بَلْ أَخَذَ يُذْكُرُ مَسَائِلَ عَوِيصَةً وَطُرُقَ فَهْمِهَا وَالفَتْوَى فِيهَا، فَقَالَ الأَوْزَاعِيُّ: «مِنْ صَاحِبُ هَذِهِ الفَتَاوَى؟» فَقَالَ: «شَيْخٌ لَقِيتُهُ بِالعِرَاقِ»، فَقَالَ الأَوْزَاعِيُّ: «هَذَا نَبِيلٌ مِنَ المَشَايِخِ، اذْهَبْ فَاسْتَكْثِرْ مِنْهُ»، قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: «هَذَا أَبُو حَنِيفَةَ» ... ثُمَّ اجْتَمَعَ الأَوْزَاعِيُّ وَأَبُو حَنِيْفَةَ بِمَكَّةَ، فَتَذَاكَرَا المَسْائِلَ التِي ذَكَرَهَا ابْنُ المُبَارَكِ فَكَشَفَهَا، فَلَمَّا افْتَرَقَا قَالَ الأَوْزَاعِيُّ لابْنِ المُبَارَكِ: «غُبِطْتُ الرَّجُلُ بِكَثْرَةِ عِلْمِهِ وَُْفَوَرِ عَقْلِهِ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ تَعَالَى، لَقَدْ كُنْتُ فِيْ غَلَطٍ ظَاهِرٍ، الْزَمْ الرَّجُلَ، فَإِنَّهُ بِخِلاَفِ مَا بَلَغَنِيَ عَنْهُ» (١)

مَا نُقِلَ عَنْ مَالِكٍ وَغَيْرِهِ فِي أَبِي حَنِيفَةَ:

ويسوقفنا القول عن هذه الناحية إلى التعرض لما أثر عن كبار العلماء في عصر أبي حنيفة من أقوال متناقضة في أبي حنيفة. فقد رُوِيَ عن مالك، والثوري، والأوزاعي، وسفيان بن عُيينة، وعبد الله بن المبارك، وغيرهم أقوال مختلفة في الحكم على أبي حنيفة، وتجد ذلك واضحاً فيما ساقه الخطيب في " تاريخه " من روايات في الثناء والذم على السواء، من أئمة


(١) " الخيرات الحسان " لابن حجر الهيتمي: ص ٣٣، ٣٤.