يزعم هذا المستشرق أَنَّ عبد الملك بنى قُبَّةَ الصَّخْرَةِ لِيَحُولَ بين أهل الشام والعراق وبين الحج إلى الكعبة، وأنه أراد أن يلبس عمله هذا ثوباً دينياً، فوضع له صديقه الزُّهْرِي حديث:«لاَ تُشَدُّ الرِّحَالُ ... إلخ» فهذا لعمري عجب من أعاجيب الافتراء والتحريف والتلاعب بحقائق التاريخ:
أَوَلاً - إن المُؤَرِّخِينَ الثقات لم يختلفوا في أن الذي بنى القبة (قُبَّةَ الصَّخْرَةِ) هو الوليد بن عبد الملك، هكذا ذكر ابن عساكر والطبري وابن الأثير وابن خلدون وابن كثير وغيرهم، ولم نجدهم ذكروا ولو رواية واحدة نسبة بنائها إلى عبد الملك ولا شك أن بناءها - كما يزعم جولدتسيهر - لتكون بمثابة الكعبة يحج الناس إليها بدلاً من الكعبة، حادث من أكبر الحوادث وأهمها في تاريخ الإسلام وَالمُسْلِمِينَ فلا يعقل أن يمر عليه هؤلاء المُؤَرِّخُونَ مَرَّ الكرام، وقد جرت عاداتهم أَنْ يُدَوِّنُوا ما هو أقل من ذلك خطراً أو أهمية، كتدوينهم وفاة العلماء وتولي القضاء وغير ذلك، فلو كان عبد الملك هو الذي بناها لذكروها، ولكنا نراهم ذكروا بناءها في تاريخ الوليد، وهؤلاء مُؤَرِّخُونَ أثبات في كتابة التاريخ، نعم جاء في كتاب " [حياة] الحيوان " للدميري نقلاً عن ابن خلكان: أن عبد الملك هو الذي بَنَى القُبَّة وعبارته هكذا: «بَنَاهَا عَبْدُ المَلِكِ وَكَانَ النَّاسُ يَقِفُونَ عِنْدَهَا يَوْمَ عَرَفَةَ» ورغماً عما في نسبة بنائها لعبد الملك من ضعف، ومن مخالفته لما ذكره أئمة التاريخ، فإن هذا النص لا غبار عليه، وليس فيه ما يدل على أنه بناها ليفعل الناس ذلك، بل ظاهره أنهم كانوا يفعلون من تلقاء أنفسهم، وليس فيه ذكر الحج عند القُبَّةِ بَدَلاً من الكعبة، بل فيه الوقوف عندها يوم عرفة، وهذه العادة كانت شائعة في كثير من أمصار الإسلام نص الفقهاء على كراهتها، وفرق كبير بين الحج إليها بَدَلاً من الكعبة، وبين الوقوف عندها تَشَبُّهاً بوقوف الحج في عرفة، ليشارك من لم يستطع الحج الحُجَّاجَ في شيء من الأجر والثواب، ولم يكن ذلك مقصوراً على قُبَّةِ الصَّخْرَةِ، بل كان كل مصر إسلامي يخرج أهله يوم عرفة إلى ظاهر البلد فيقفون كما يقف الحُجَّاجُ.