ثَانِياًً - إن نص الحادثة كما ساقها جولدتسيهر بَيِّنُ البطلان، لأن بناء شيء ليحج الناس إليه كُفْرٌ صَرِيحٌ، فكيف يقدم عبد الملك عليه، وهو الذي كان يلقب بـ «حَمَامَةِ المَسْجِدِ» لكثرة عبادته؟ على أن خصومه طعنوا فيه بأشياء كثيرة ولم نجدهم اتهموه بالكفر» وَلاَ شَنَّعُوا عليه ببناء القبة، ولو كان الأمر ثابتاً لجعلوها في أول مَا يُشَهِّرُونَهُ بِهِ.
ثَالِثاً - أن الزُّهْرِي وُلِدَ - كما قدمنا - سَنَةَ إحدى وخمسين أو ثمان، ومقتل عبد الله بن الزبير كان سَنَةَ ثلاث وسبعين، فيكون عُمْرُ الزُّهْرِي حينذاك على الرواية الأولي اثْنَيْنِ وَعِشْرِينَ عَامًا، وعلى الثانية خَمْسَةَ عَشَرَ، فهل من المعقول أن يكون الزُّهْرِيُّ في تلك السن ذائع الصيت عند الأُمَّةِ الإسلامية بحيث تتلقى منه بالقبول حَدِيثًا موضوعاً يدعوها فيه للحج إلى القبة بدلاً عن الكعبة؟
رَابِِعاًً - إن نصوص التاريخ قاطعة بأن الزُّهْرِي في عهد ابن الزبير لم يكن يعرف عبد الملك ولا رآه بعد، فالذهبي يذكر لنا أن الزُّهْرِي وَفَدَ لأَوَّلِ مَرَّةٍ على عبد الملك في حدود سَنَةِ ثمانين، وابن عساكر روى أن ذلك كان سَنَةَ اثنتين وثمانين، فمعرفة الزُّهْرِي لعبد الملك لأَوَّلِ مَرَّةٍ إنما كانت بعد قتل ابن الزبير ببضع سنوات، وقد كان يومئذ شاباً بحيث امتحنه عبد الملك، ثم نصحه أن يطلب العلم من دور الأنصار، فكيف يَصِحُّ الزعم بأن الزُّهْرِي أجاب رغبة صديقه عبد الملك فوضع له حديث بيت المقدس ليحج الناس إلى القُبة في عهد ابن الزبير؟.
خامساً: إن حديث: «لاَ تُشَدُّ الرِّحَالُ ... الخ» روته كُتُبُ السُنَّةِ كلها، وهو مروي من طرق مختلفة عن طريق الزُّهْرِي، فقد أخرجه " البخاري " عن أبي سعيد الخُدري من غير طريق الزُّهْرِي، ورواه " مسلم " من ثلاث طرق إحداهما من طريق الزُّهْرِي وثانيتهما من طريق جرير عن ابن عمير عن قزعة عن أبي سعيد، وثالثتهما من طريق ابن وهب عن عبد الحميد بن جعفر عن عمران بن أبي أنس عن سلمان الأغر عن أبي هريرة. فالزُّهْرِي لم ينفرد برواية هذا الحديث، كما يزعم جولدتسيهر، بل شاركه فيه غيره كما سمعت، وقد سئل شيخ الإسلام ابن تيمية - رَحِمَهُ اللهُ - عن حكم زيارة بيت المقدس والصلاة فيه - وهو مِمَّنْ ينكر السفر لأجل