غير أن الصحابة لم يكونوا جميعاً على مبلغ واحد من العلم بأحوال رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وأقواله، فقد كان منهم الحضري والبدوي، ومنهم التاجر والصانع، والمنقطع للعبادة الذي لا يجد عملاً، ومنهم المقيم في المدينة، ومنهم المكثر من الغياب عنها، ولم يكن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يجلس للتعليم مجلساً عَامًّا يجتمع إليه فيه الصحابة كلهم إلا أحياناً نادرة، وإلاَّ أيام الجمعة والعيدين وفي الوقت بعد الوقت. أخرج " البخاري " عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، قَالَ:«كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَخَوَّلُنَا بِالمَوْعِظَةِ فِي الأَيَّامِ، كَرَاهَةَ السَّآمَةِ عَلَيْنَا»، ومن هنا يقول مَسْرُوقٌ: «جَالَسْتُ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَوَجَدْتُهُمْ كَالإِخَاذِ (الغَدِيرُ)، فَالإِخَاذُ يَرْوِي الرَّجُلَ، وَالإِخَاذُ يَرْوِي الرَّجُلَيْنِ، وَالإِخَاذُ يَرْوِي الْعَشَرَةَ، وَالإِخَاذُ يَرْوِي المِائَةَ، وَالإِخَاذُ لَوْ نَزَلَ بِهِ أَهْلُ الأَرْضِ لأَصْدَرَهُمْ»، وطبيعي أن يكون أكثر الصحابة علماً بِسُنَّةِ الرسول الذين كانوا أسبقهم إسلاماً كالخلفاء الأربعة وعبد الله بن مسعود، أو أكثرهم ملازمة له وكتابة عنه كأبي هريرة وعبد الله بن عمرو بن العاص وغيرهم.
لا يختلف اثنان من كُتَّابِ السيرة وعلماء السُنَّةِ وجماهير المُسْلِمِينَ في أن القرآن الكريم قد لقي من عناية الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - والصحابة ما جعله محفوظًا في الصدور ومكتوباً في الرقاع والسعف والحجارة وغيرها، حتى إذا توفي رسول الله كان القرآن محفوظاً مرتباً لا ينقصه إلا جمعه في مصحف واحد.
أما السُنَّةُ فلم يكن شأنها كذلك، رغم أنها مصدر هام من مصادر التشريع
(١) أخرجه " البخاري "، و" مسلم "، و" النسائي " عن عائشة، وقال المطرّزي في " المغرب ": ٢/ ٢٠ في تفسير «فَتَوَضَّئِي بِهَا» أَيْ: امْسَحِي بِهَا أَثَرَ الدَّمِ.