وعقائد لم يعتقدها، فهو مرجىء عند بعض الناس، وقَدَرِيٌّ عند بعضهم الآخر، وقائل بالتناسخ عند فريق، وَمُنْكِرٌ للحديث عند جماعة اَخرين، وقائل في دين الله بالرأي والهوى عند كثير من الناس.
ولقد ذهبت كل هذه الاتهامات بعد وفاة أبي حنيفة وانتشار فقهه وتلامذته في الأقطار مع الريح، فلم يبق منها شيء. ولكن الذي بقي ولا يزال حتى اليوم باقياً مِمَّا ألصقه خصوم أبي حنيفة أمران كان للعصبية المذهبية من جهة، والجهل بطرق الأئمة في الاجتهاد من جهة أخرى، أَثَّرَ في اتهام أبي حنيفة بهما، وبقاء هذا الاتهام حتى اليوم، حتى اتخذ أعداء السُنَّةِ من أحدهما وسيلة للتشكيك بها كما رَأَيْتَ من صنيع صاحب " فجر الإسلام ".
أما التهمتان فهما: قلة بضاعة أبي حنيفة من الحديث، وتقديمه الرأي والقياس على الحديث الصحيح، وسنبحث في أمر هاتين التُّهْمَتَيْنِ ومستندهما من التاريخ ونعرضهما على الحقائق الثابتة في تاريخ أبي حنيفة، والمأثور من فقهه واجتهاده.
يروي لنا الخطيب البغدادي نقولاً متعددة يرمي فيها أصحابُها أبا حنيفة بقلة البضاعة في الحديث وضعفه فيه، من ذلك ما نقله عن ابن المبارك:«كَانَ أَبُو حَنِيفَةَ يَتِيمًا فِي الحَدِيثِ»، وعن [أَبِي](*) قطن: «كَانَ زَمَنًا فِي الحَدِيثِ»، وعن يحيى بن سعيد القطان:«لَمْ يَكُنْ بِصَاحِبِ حَدِيثٍ»، وعن ابن معين:«اِيشْ كَانْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ مِنَ الحَدِيثِ حَتَّى تَسْأَلَ عَنْهُ؟»، وعن أحمد بن حنبل:«أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ رَأْيٌ وَلاَ حَدِيثٌ»، وعن أبي بكر بن أبي داود:«جَمِيعُ مَا رُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ مِنَ الحَدِيثِ مِائَةٌ وَخَمْسُونَ حَدِثًا أَخْطَأَ فِي نِصْفِهَا»، وعن عبد الرزاق:«مَا كَتَبْتُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ إِلاَّ لأُكْثِرَ بِهِ رِجَالِي، وَكَانَ يَرْوِي عَنْهُ نَيِّفًا وَعِشْرِينَ حَدِيثًا» وعن ابن المديني «أَنَّهُ رَوَى خَمْسِينَ حَدِيثًا أَخْطَأَ فِيهَا»(١).
(١) هذه الأقوال مبثوثة في الجزء الثالث عشر من " تاريخ بغداد " للخطيب البغدادي: ص ٤٤٤، فما بعدها.