هنا محل ذكرها. ولكنهم - والحق يقال - عنوا بنقد الإسناد أكثر مِمَّا عنوا بنقد المتن، فَقَلَّ أن نظفر منهم بنقد من ناحية أن ما نسب إلى النَّبِيّ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لا يتفق والظروف الي قيلت فيه، أو أن الحوادث التاريخية الثابتة تناقضه، أو أن عبارة الحديث نوع من التعبير الفلسفي يخالف المألوف في تعبير النَّبِيّ، أو أن الحديث أشبه في شروطه وقيوده بمتون الفقه وهكذا، ولم نظفر منهم في هذا الباب بِعُشْرِ مِعْشَارِ ما عنوا به من جرح الرجال وتعديلهم حتى نرى البخاري نفسه - على جليل قدره ودقيق بحثه - يثبت أحاديث دلت الحوادث الزمنية والمشاهدة التجريبية على أنها غير صحيحة، لاقتصاره على نقد الرجال، كحديث:«لاَ يَبْقَى عَلَى ظَهْرِ الأَرْضِ بَعْدَ مِائَةِ سَنَةٍ نَفْسٌ مَنْفُوسَةٌ» وحديث «مَنْ اصْطَبَحَ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعَ تَمَرَاتٍ [مِنْ عَجْوَةً] لَمْ يَضُرَّهُ سُمٌّ وَلاَ سِحْرٌ ذَلِكَ الْيَوْمَ إِلَى اللَّيْلِ». وهذا الكلام تضمن أمرين:
الأول: - نقد القواعد التي وضعها العلماء لنقد الحديث.
والئاني: - نقد حديثين وردا في " صحيح البخاري "، تمشياً مع القواعد الجديدة التي وضعها للنقد.
نبحث هذا الأمر لنرى هل قََصَّرَ العُلَمَاءُ في نقد المتن؟ وهل كان هناك مجال للتوسع في النقد أكثر مِمَّا فعلوه؟
إذا أخبرك رجل عن آخَرَ خَبَرًا، كان أول ما يسبق إلى خاطرك، أن تستوثق من صِدْقِ المُخْبِرِ، بالنظر في حاله وأمانته ومعاملته وغير ذلك، فإذا استوثقت منه نظرت بعد ذلك في الخبر نفسه، وعرضته على ما تعرف عن صاحبه من أقرال وأحوال، فإذا اتفق مع ما تعلمه من ذلك، لم تشك بصدق المُخْبِرِ والاطمئنان إليه، وإلا كان لك أن تتوقف في قبول الخبر لا لريبة في المُخْبِرِ - فأنت واثق من صدقه - بل لشبهة رأيتها في الخبر نفسه، ويصح أن يكون مرجعها وَهُمًا أو نسياناً من المُخْبِرِ، كما يصح أن ترجع إلى سِرٍّ في الأمر لم تتبينه، فلعل في مستقبل الزمن ما يكشف السِرَّ ويوضح لك ما غاب عنك، فإذا أنت لم تقتصر على التوقف في الخبر في هذه الحالة، بل حكمت بكذبه، كان ذلك افتئاتاً منك على من أخبرك، ونقضاً لما أبرمته، إذ كذبت المُخْبِرَ وأنت له مُصَدِّقٌ وبه واثق.