للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

المُسْلِمِينَ وبين حاقد عليه يَنَفِّرُ الناس عنه وعن فقهه، ويسيئ الظن به وبأصحابه، فما هو سر ذلك يا ترى؟ ومن هم هؤلاء الطاعنون؟

أَسْبَابُ هَذِهِ الضَجَّةِ:

١ - إن أبا حنيفة كان أول من توسع في استنباط الفقه من أئمة عصره، وفي تفريع الفروع على الأصول، وافتراض الحوادث التي لم تقع، وقد كان العلماء من قبله يكرهون ذلك، ويرون فيه ضياعاً للوقت ومشغلة للناس فيما لا فائدة فيه، وَقَدْ كَانَ زَيْدٌ بْنُ ثَابِتٍ إِذَا سُئِلَ عَنْ مَسْأَلَةٍ لا يَقُوْلُ: «هَلْ وَقَعَتْ؟» فَإِنْ قَالُوا: لاَ، قَالَ: «ذَرُوهَا حَتَّى تَقَعَ» أما أبو حنيفة فكان يرى غير ذلك إذ وظيفة المجتهد تمهيد الفقه للناس والحوادث وإن لم تكن واقعة زمن المجتهد لكنها ستقع، وإليك ما يعبر عن وجهة نظره كما ذكر الخطيب (١).

«عندما نزل قتادة الكوفة قام إليه أبو حنيفة، فقال له: " يَا أَبَا الخَطَّابِ مَا تَقُولُ فِي رَجُلٍ غَابَ عَنْ أَهْلِهِ أَعْوَامًا، فَظَنَّتْ امْرَأَتَهُ أَنْ زَوْجَهَا مَاتَ، فَتَزَوَّجَتْ ثُمَّ رَجَعَ زَوْجُهَا الأَوَّلُ، مَا تَقُولُ فِيْ صَدَاقِهَا؟ " وَكَانَ أَبُوْحَنِيفَةَ قَدْ قَالَ لأَصْحَابِهِ الذِينَ اجْتَمَعُوا إِلَيْهِ: " لَئِنْ حَدَّثَ بِحَدِيْثٍ لَيَكْذِبَنَّ، وَلَئِنْ قَالَ بِرَأْيِ نَفْسِهِ لِيُخْطِئَنَّ ". فَقَالَ قَتَادَةُ: " وَيْحَكَ أَوْقَعَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ؟ " قَالَ:" لاَ ". قَالَ: " فَلَمْ تَسْأَلْنِيْ عَمَّا لَمْ يَقَعْ؟ " قَالَ أَبُوْ حَنِيْفَةُ: " لِنَسْتَعِدَّ لِلْبَلاَءِ قَبْلَ نُزُوْلِهِ، فَإِذَا مَا وَقَعَ، عَرَفْنَا الدُّخُولَ فِيهِ وَالخُرُوجَ مِنْهُ "».

وقد عُرِفَتْ مدرسة أبي حنيفة بمدرسة (الأَرَأَيْتِيِّينَ) أي: الذين يفترضون الوقائع بقولهم: (أَرَأَيْتَ لَوْ حَصَلَ كَذَا؟ أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ كَذَا؟) فقد سأل مالكاً - رَحِمَهُ اللهُ - بعض تلاميذه يوماً عن حكم مسألة فأجابه، فقال تلميذه: «أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ كَذَا»؟ فغضب مالك وقال: «هَلْ أَنْتَ مِنَ الأَرَأَيْتِيِّينَ، هَلْ أَنْتَ قَادِمٌ مِنَ العِرَاقِ؟».

أخرج ابن عبد البر عن مالك قال: «أَدْرَكْتُ أَهْلَ هَذِهِ الْبِلاَدِ وَإِنَّهُمْ لَيَكْرَهُونَ هَذَا الإِكْثَارَ الَّذِي فِي النَّاسِ الْيَوْمَ»، قَالَ ابْنُ وَهْبٍ: «يُرِيدُ الْمَسَائِلَ».


(١) " تاريخ بغداد ": ١٢/ ٣٤٨.