للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

لَكِنْ بِبَيَانِ النَّبِيّ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَإِذَا كَانَ بَيَانُهُ - عَلَيْهِ السَلاَمُ - لِذَلِكَ المُجْمَلِ غَيْرَ مَحْفُوظٍ وَلاَ مَضْمُونٌ سَلاَمَتُهُ مِمَّا لَيْسَ مِنْهُ، فَقَدْ بَطَلَ الاِنْتِفَاعِ بِنَصِّ القُرْآنِ، فَبَطَلَتْ أَكْثَرُ الشَّرَائِعِ المُفْتَرَضَةِ عَلَيْنَا فِيهِ، فَإِذَا لَمْ نَدْرِ صَحِيْحَ مُرَادِ اللهِ تَعَالَى مِنْهَا» (١).

الجَوَابُ عَنْ الشُبْهَةِ الثَّالِثَةِ:

إن عدم أمر النَّبِيِّ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بكتابتها ونهيه عن ذلك كما ورد في بعض الأحاديث الصحيحة، لا يدل على عدم حُجِيَّتِهَا، بل لما قدمناه - عند البحث على كتابة السُنَّةِ - من أن المصلحة حينئذ كانت تقتضي بتضافر كُتَّابِ الصحابة - نَظَرًا لِقِلَّتِهِمْ - على كتابة القرآن وتدوينه، وبتضافر المُسْلِمِينَ على حِفْظِ كتاب الله خشية من الضياع واختلاط شيء به، وقد حققنا أن ما ورد من النهي إنما كان عن كتابة الحديث وتدوينه رسمياً كالقرآن، أما أن يكتب الكاتب لنفسه فقد ثبت وقوعه في عهد الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.

وليست الحُجِّيَّةُ مقصورة على الكتابة حتى يُقَالَ: لو كانت حُجِّيَّةُ السُنَّةِ مقصودة للنبي لأمر بكتابتها، فإن الحُجِّيَّةَ تثبت بأشياء كثيرة: منها التواتر، ومنها نقل العُدُول الثقات، ومنها الكتابة، والقرآن نفسه لم يكن جَمْعُهُ في عهد أبي بكر بِنَاءً على الرقاع المكتوبة فحسب، بل لم يكتفوا بالكتابة حتى تواتر حفظ الصحابة لكل آية منه، وليس النقل عن طريق الحفظ بأقل صحة وضبطاً من الكتابة، خصوصاً من قوم كالعرب عرفوا بقوة الحافظة، وأتوا من ذلك بالعجائب، فقد كان الرجل منهم يحفظ القصيدة كلها من مَرَّةٍ واحدة، كما ثبت عن ابن عباس أنه حفظ قصيدة لعمر بن أبي ربيعة في جلسة واحدة (٢) ومنهم من يحفظ ما يُلْقَى من الحديث في المجلس الواحد لا يخرم منه حَرْفًا، وقد حكى ابن عساكر عن الزُّهْرِيِّ أَنَّ عبد الله أرسل كتاباً إلى أهل المدينة يلُومُهُم فيه على موقفهم من فتنة ابن


(١) " الإحكام ": ١/ ١٢١.
(٢) " جامع بيان العلم ": ١/ ٦٩.