ونحن لا نريد أن ننقد هذه الروايات من جهة سندها، فقد فَنَّدَهَا المُحَقِّقُون َوَبَيَّنُوا تحامل الخطيب في سردها وإيرادها (١)، ولكنا نريد أن ننقد الفكرة التي ما زال يُرَدِّدُهَا خُصُومُ أَبِي حَنِيفَةَ وَخُصُومُ السُنَّةِ معاً، والتي رَدَّدَهَا بعض المُؤَرِّخِينَ عن طيب قلب، كما فعل ابن خلدون في " مقدمته " إذ ذكر - بصيغة التمريض والضعف - أن مروياته بلغت - على ما يقال - سبعة عشر حَدِيثًا.
ولا شك أن من الخطورة بمكان، أن نرى إماماً من كبار أئمة المُسْلِمِينَ، صاحب مذهب من أوسع المذاهب الفقهية فروعاً واستنباطاً، يدين بمذهبه عشرات الملايين من المُسْلِمِينَ في مشارق الأرض ومغاربها، ثم لا تزيد ثروته في الحديث عن بضعة عشر حَدِيثًا أو مائة وخمسين .. فهل هذا صحيح؟ ..
١ - إن أبا حنيفة - رَحِمَهُ اللهُ - إمام مجتهد بإجماع الموافقين والمخالفين، ومن شرائط الاجتهاد أن يحيط المجتهد بأحاديث الأحكام، وهي آلاف، وعلى أقل تقدير بضع مئات كما ذهب إليه بعض الحنابلة، فكيف جاز لأبي حنيفة أن يجتهد وهو لم يستكمل أهم شرط من شروط الاجتهاد؟ .. وكيف اعتبر الأئمة اجتهاده وعنوا بفقهه، ونقلوه في الآفاق واشتغلوا به تقريراً أو نقداً، وهو قائم على غير أساس؟.
٢ - إن من يطالع مذهب الإمام يجده قد وافق الأحاديث الصحيحة في مئات من المسائل، وقد جمع شارح " القاموس " السَيِّدُ مُرْتَضَى الزَّبِيدِي - رَحِمَهُ اللهُ - كتاباً جمع فيه الأحاديث من مسانيد الإمام أبي حنيفة والتي وافقه في روايتها أصحاب الكتب الستة سماه:" عقد الجواهر المنيفة في أدلة أبي حنيفة ". فكيف وافق اجتهاد الإمام مئات الأحاديث الصحيحة، وليس عنده إلا بضعة عشر حَدِيثًا، أو خمسون، أو مائة وخمسون أخطأ في نصفها؟.
٣ - لقد أفرد ابن أبي شيبة في " مصنفه الكبير " باباً لما خالف فيه أبو حنيفة ما صح
(١) انظر " تأنيب الخطيب على ما ساق في ترجمة أبي حنيفة من الأكاذيب " للشيخ محمد زاهد الكوثري، فقد ناقش هذه الروايات بتكذيب نسبة هذه الأقوال إلى أصحابها.