الزُّهْرِيِّ والذي يظهر أيضاًً أن تدوين الزُّهْرِي للسُنَّةِ لم يكن كالتدوين الذي تم على يد البخاري ومسلم أو أحمد وغيره من رجال المسانيد، وإنما كان عبارة عن تدوين كل ما سمعه من أحاديث الصحابة غير مُبَوَّبٍ على أبواب العلم، وربما كان مختلطاً بأقوال الصحابة وفتاوى التَّابِعِينَ، وهذا ما تقتضيه طبيعة البداءة في كل أمر جديد، وقد نستأنس لهذا بما روي عنه من أنه كان يخرج لطلابه أجزاء مكتوبة يدفعها إليهم لِيَرْوُوهَا عَنْهُ، وبذلك كان الزُّهْرِيُّ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُ - أول من وضع حجر الأساس في تدوين السُنَّةِ في كتب خاصة، بعد أن كان عدد من علماء التَّابِعِينَ يكرهون كتابة العلم خشية من ضعف الذاكرة، بل كان الزُّهْرِيُّ نفسه في بدء شهرته العلمية يكره كتابة العلم ويمتنع عنه، حتى رغب إليه بذلك عمر بن عبد العزيز، وسيأتي معنا مزيد بيان لهذا البحث عند الكلام عن الزُّهْرِيِّ.
ثم شاع التدوين في الجيل الذي يلي جيل الزُّهْرِيَّ. وكان أول من جمعه بمكة ابن جُرَيْجٍ (- ١٥٠ هـ) وابن إسحاق (- ١٥١ هـ) وبالمدينة سعيد بن أبي عروبة (- ١٥٦ هـ) والربيع بن صُبيح (- ١٦٠ هـ) والإمام مالك (- ١٧٩ هـ) وبالبصرة حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ (- ١٦٧ هـ) وبالكوفة سفيان الثوري (- ١٦١ هـ) وبالشام أبو عمرو الأوزاعي (- ١٥٧ هـ) وبواسط هُشَيْمٌ (- ١٧٣ هـ) وبخراسان عبد الله بن المبارك (- ١٨١ هـ) وباليمن مَعْمَرٌ (- ١٥٤ هـ) وبالريِّ جرير بن عبد الحميد (- ١٨٨ هـ) وكذلك فعل سفيان بن عيينة (-١٩٨ هـ) والليث بن سعد (- ١٧٥ هـ) وَشُعْبَةُ بْنِ الحَجَّاجِ (- ١٦٠ هـ). وهؤلاء جميعاً كانوا في عصر واحد وَلاَ يُدْرَى أيهم سبق إلى ذلك، وكان صنيعهم في التدوين أن يجمعوا حديث رسول الله مختلطاً بأقوال الصحابة وفتاوى التَّابِعِينَ مع ضم الأبواب بعضها إلى بعض في كتاب واحد، قال الحافظ ابن حجر:«[وَهَذَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى] الجَمْعِ بِالأَبْوَابِ، أَمَّا جَمْعُ حَدِيثٍ إِلَى مِثْلِهِ فِي بَابٍ وَاحِدٍ فَقَدْ سَبَقَ إِلَيْهِ الشَّعْبِيُّ، فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: " هَذَا بَابٌ مِنَ الطَّلاَقِ جَسِيمٌ»(١).
ثم جاء القرن الثالث فكان أزهى عصور السُنّة وأسعدها بأئمة الحديث