نسب الشك إلى نفوس الذين أخذوا عنه مباشرة - أي التَّابِعِينَ - أما المؤلف فقد نسب الشك إلى بعض أصحابه ... وهكذا كان في طعنه الخفي أشد وأنكى من طعن جولدتسيهر - الظاهر - وهي براعة لا يحمد المؤلف عليها.
ومهما يكن من أمر فليس فيما نقله المؤلف عن أبي هريرة وما دافع به أبو هريرة عن نفسه ما يؤدي إلى الطعن فيه أو التشكيك بصدقه، إذ من المعلوم أن أبا هريرة كان من المكثرين في التحديث عن رسول الله، رغم تأخُّر إسلامه لكثرة ملازمته للرسول حتى كان يدور معه حيثما دار، فلما توفي الرسول - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كان يسأل كبار الصحابة عن حديث الرسول، كما كان يفعل صغار الصحابة، كعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وأنس وغيرهم، وبذلك وبحرصه على استيعاب كل أخبار رسول الله - بأنه أكثر الصحابة حرصاً على الحديث - كان من أشد الناس حفظاً للحديث واحتفاءً به. فلما كان عهد الخلفاء الراشدين وتفرق الصحابة في الأمصار، رأى من واجب الأمانة عليه أن يُبَلِّغَ ما حفظه عَنْ النَّبِيِّ إلى أُمَّتِهِ، وخاف عاقبة الكتمان إن هو امتنع عن التحديث، بهذا صرَّحَ أبو هريرة نفسه إذ يقول في حديث أخرجه " البخاري " و" مسلم ": «لَوْلاَ آيَتَانِ مِنْ كِتَابِ اللهِ مَا حَدَّثْتُ حَدِيثًا، ثُمَّ تَلاَ:{إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ، إِلاَّ الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ}»(١).
كان من الطبيعي أن يثير تدفق أبي هريرة في الحديث عن رسول الله هذا التدفق العجيب - مع ما عُلِمَ من تأخر إسلامه - الغرابة في نفوس بعض التَّابِعِينَ أو من كان بعيداً عن محيط المدينة من صحابة رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وأن يقولوا: ما بال أبي هريرة يكثر الحديث، وأصحاب رسول الله لا يكثرون