ثم ألا تراه يقول في الرد عليهم: إن إخواني من المهاجرين، وإن إخواني من الأنصار. ولو كانوا هم الناقدين لقال لهم:«يقولون: إنكم كنتم تشتغلون بالتجارة أو الزراعة» وألا تراه يقول في آخر الحديث، كما في رواية " البخاري ": «وَيَحْضُرُ مَا لاَ يَحْضُرُونَ وَيَحْفَظُ مَا لاَ يَحْفَظُونَ». وكان حقه لو كان الصحابة هم المعترضين أن يقول لهم: ما لا تحضرون. هذا ما تَرَجَّحَ عندي بالتأمل في الحديث، ثم لما أَمْعَنْتُ النظر في ترجمة أبي هريرة عساي أجد اسم واحد من الصحابة الذين اعترضوا على أبي هريرة بهذا الاعتراض، وجدتُ في " الإصابة " لابن حجر ما يأتي: «وأخرج ابن سعد من طريق الوليد بن رباح سمعت أبا هريرة يقول لمروان: حين أرادوا أن يدفنوا الحسن عند جده: «تَدَخَّلُ فِيمَا لاَ يَعْنِيكَ» - وكان الأمير يومئذ غيره - ولكنك تريد رضا الغائب، فغضب مروان وقال:«إِنَّ النَّاس يَقُولُونَ: أَكْثَرَ أَبُو هُرَيْرَةَ، الحديث ... إلخ» ومروان كما لا يخفى تابعي، وقد وقعت هذه القصة في عصر متأخر. ومروان يقول ذلك عند الغضب وينسبه إلى الناس، ولو كان الصحابة هم الذين شكوا لما تركوا إبلاغ شكهم إلى أبي هريرة حتى يأتي مروان فيبلغه هذا الشك في مناسبة من المناسبات.
وَأَيًّا ما كان فليس في الحديث الذي تحدث به أبو هريرة عن نفسه - ولم نجد رواية لغيره في هذا المعنى - ما يدل على أن الناقدين له كانوا من الصحابة أو من ذوي الشهرة فيهم، ولو حصل ذلك لرواة التاريخ كما روى غيره من رَدِّ بعض الصحابة على بعض، ونحن نَتَحَدَّى صاحب " فجر الإسلام " وَنَتَحَدَّى شيوخه من المُسْتَشْرِقِينَ وجميع أذنابهم في أقطار الأرض أن يأتونا بنص تاريخي صحيح يثبت أن أحداً من المعروفين في الصحابة قال هذا القول، أو أن الصحابة منعوه من التحديث أو صَرَّحُوا بكذبه، أو منعوا من الاستماع إليه، وهيهات أن يجدوا ذلك، بل نصوص التاريخ الثابتة قاطعة بإقرار الصحابة له بالحفظ واعترافهم بأنه أكثرهم اطلاعاً على الحديث، ولقد كانت عائشة وابن عمر وغيرهما أحياناً يستغربون بعض أحاديثه ثم لا يلبثون أن يَتَقَبَّلُوهَا منه مُعْتَرِفِينَ بإحاطته بما لم يحيطوا به.
حَدَّثَ أبو هريرة يوماً عن رسول الله - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أنه قال: «مَنْ تَبِعَ