للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

التَّسْوِيَةِ بَيْنَهُمْ فِي العَطِيَّةِ لِظَاهِرِ بَعْضِ أَلْفَاظِ الرِّوَايَةِ، مِنْهُمْ ابْنُ الْمُبَارَكَ وَأَحْمَدُ وَالظَّاهِرِيَّةُ، وَكَانَ إِسْحَاقُ مَعَهُمْ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى مَذْهَبِ الجُمْهُورِ.

وَالإِجْمَاعُ عَلَىَ جَوَازِ هِبَةِ المَرْءِ لِمَالِهِ لِلْغَرِيبِ مِمَّا يُؤَيِّدُ رَأْيَ الجُمْهُوْرِ، وَلاَ نَصَّ حَيْثُ يَكُونُ احْتِمَالٌ، فَلاَ يَكُونُ مَعْنَى لِمَا يُقَالُ: لاَ قِيَاسَ فِي مَوْرِدِ الاجْتِهَادِ هُنَا. وَقَدْ أَوْرَدَ البَيْهَقِيُّ نَحْوَ عَشَرَةِ وُجُوهٍ فِي تَأْيِيدِ أَنَّ الأَمْرَ بِالتَّسْوِيَةِ هُنَا لِلْنَّدْبِ وَإِنْ نَاقَشَهُ فِيهَا بَعْضُهُمْ.

وَسَبَبُ اخْتِلاَفِ الفُقَهَاءِ فِي حَمْلِ تِلْكَ الأَحَادِيثَ عَلَىَ الوُجُوبِ أَوْ عَلَىَ النَّدْبِ هُوَ اخْتِلاَفُ أَلْفَاظِهَا، فَقَوْلُهُ فِي هَذَا «فَأَرْجِعْهُ»، وَقَوْلُهُ فِي الآخَرِ «أُشْهِدُ عَلَى هَذَا غَيْرِي» وَفِي آخَرَ «أَيَسُرُّكِ أَنْ يَكُونُوا فِي البِرِّ سَوَاءٌ» تَدُلُّ عَلَىَ النَّدْبِ، وَهُنَاكَ أَلْفَاظٌ تُؤْذِنُ بِالوُجُوبِ مِثْلَ «لاَ أَشْهَدُ عَلَى جَوْرٍ»، إِلاَّ إِذَا حُمِلَ الجَوْرُ عَلَىَ مُجَرَّدِ المَيْلِ لِقَرَائِنَ قَائِمَةً، حَتَّى قَالَ القَاضِي عِيَاضٌ: «وَالجَمْعُ بَيْنَ أَحَادِيثِ البَابِ أَوْلَى مِنْ طَرْحِ بَعْضِهَا، وَمِنْ تَوْهِينِ الحَدِيثِ بِالاضْطِرَابِ فِي أَلْفَاظِهِ، وَوَجْهُ الجَمْعِ أَنْ تُحْمَلَ كُلُّهَا عَلَىَ النَّدْبِ» ثُمَّ بَيَّنَ وَجْهَ حَمْلِهَا كُلِّهَا عَلَىَ النَّدْبِ فِي " شَرْحِهِ عَلَىَ صَحِيحِ مُسْلِمٍ ".

وَنَحْنُ نَرَى أَنْفُسَنَا فِيْ غُنْيَةِ عَنْ التَّوَسُّعِ هُنَا بِأَكْثَرَ مِمَّا ذَكَرْنَا، لأَنَّ المَسْأَلَةَ لَيْسَتْ مِمَّا انْفَرَدَ بِهِ أَبُو حَنِيْفَةَ، بَلْ مَعَهُ جُمْهُورُ أَهْلِ الفِقْهِ. وَتَفْضِيلُ أَبِيْ بَكْرٍ لِعَائِشَةَ وَعُمَرَ لِعَاصِمٍ فِي العَطِيَّةِ مِمَّا نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ، وَكَذَا فَعَلَ غَيْرُهُمَا مِنَ الصَّحَابَةِ وَإِقْدَامُهُمْ عَلَىَ ذَلِكَ مِنْ أَجْلَى الأَدِلَّةِ عَلَى أَنَّ الأَمْرَ بِالتَّسْوِيَةِ لِلْنَّدْبِ» (١).

هذا مثل مِمَّا أورده ابن أبي شيبة على أبي حنيفة من تركه العمل بالأحاديث في مائة وخمس وعشرين مسألة، ومن الجواب تعلم أن الإمام لم يترك العمل بها تقديماً للرأي عليها، وإنما فعل ذلك عن اجتهاد منه، ومثله يعذر، كما يعذر كل إمام فيما يؤدي إليه رأيه من اجتهاد.

كما ينبغي أن نعلم أن ما ذكره ابن أبي شيبة من المسائل التي خالف فيها


(١) " النكت الطريفة ": ص ٢١ - ٢٢.