العلم " (١): «وَأَفْرَطَ أَصْحَابُ الحَدِيثِ فِي ذَمِّ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَتَجَاوَزُوا الحَدَّ فِي ذَلِكَ، وَالسَّبَبُ المُوجِبُ لِذَلِكَ عِنْدَهُمْ إِدْخَالُهُ الرَّأْيَ وَالْقِيَاسَ عَلَى الآثَارِ وَاعْتُبَارُهُمَا، وَأَكْثَرُ أَهْلِ الْعِلْمِ يَقُولُونَ: إِذَا صَحَّ الأَثَرُ مِنْ جِهَةِ الإِسْنَادِ بَطَلَ الْقِيَاسُ وَالنَّظَرُ، وَكَانَ رَدُّهُ لِمَا [رَدَّ](*) مِنَ الأَحَادِيثِ بِتَأْوِيلٍ مُحْتَمَلٍ، وَكَثِيرٌ مِنْهُ قَدْ تَقَدَّمَهُ إِلَيْهِ غَيْرُهُ وَتَابَعَهُ عَلَيْهِ مِثْلُهُ مِمَّنْ قَالَ بِالرَّأْيِ، وَجُلُّ مَا يُوجَدُ لَهُ مِنْ ذَلِكَ مَا كَانَ مِنْهُ اتِّبَاعًا لِأَهْلِ بَلَدِهِ كَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ وَأَصْحَابِ ابْنِ مَسْعُودٍ إِلَّا أَنَّهُ أَغْرَقَ وَأَفْرَطَ فِي تَنْزِيلِ النَّوَازِلِ هُوَ وَأَصْحَابُهُ وَالْجَوَابِ فِيهَا بِرَأْيِهِمْ وَاسْتِحْسَانِهِمْ، فَيَأْتِي مِنْهُمْ مِنْ ذَلِكَ خِلَافٌ كَثِيرٌ لِلسَّلَفِ وَشُنَعٌ هِيَ عِنْدَ مُخَالِفِيهِمْ بِدَعٌ (هذا رأي ابن عبد البر) وما أعلم أحداً من أهل العلم إلا وله تأويل في آية أو مذهب في سُنَّةٍ، رد من أجل ذلك المذهب سُنَّةً أخرى بتأويل سائغ أو ادعاء نسخ، إلا أن لأبي حنيفة من ذلك كثيراً وهو يوجد لغيره قليل». (هذا رأي ابن عبد البر) وبعد أن ذكر ما أحصاه الليث بن سعد على مالك من مخالفته لِلْسُنَّةِ، قال:«لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ عُلَمَاءِ الأُمَّةِ يُثْبِتُ حَدِيثًا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ يَرُدُّهُ دُونَ ادِّعَاءِ نَسْخِ ذَلِكَ بِأَثَرٍ مِثْلِهِ، أَوْ بِإِجْمَاعٍ أَوْ بِعَمَلٍ يَجِبُ عَلَى أَصْلِهِ الانْقِيَادُ إِلَيْهِ أَوْ طَعْنٍ فِي سَنَدِهِ، وَلَوْ فَعَلَ ذَلِكَ أَحَدٌ سَقَطَتْ عَدَالَتُهُ فَضْلاً عَنْ أَنْ يُتَّخَذَ إِمَامًا وَلَزِمَهُ اسْمُ الْفِسْقِ، وَلَقَدْ عَافَاهُمُ اللَّهُ - عَزَّ وَجَلَّ - مِنْ ذَلِكَ، وَنَقَمُوا أَيْضًا عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ الإِرْجَاءَ». (أقول: والتحقيق أن إرجاءه هو محض السُنَّةِ) ومن أهل العلم مِمَّنْ ينسب إلى الإرجاء كثير، لم يعن أحد بنقل قبيح ما قيل فيه، كما عنوا بذلك في أبي حنيفة لإمامته، وكان أيضاًً - مع هذا - يُحْسَدُ ويُنسب إليه ما ليس فيه ويُختلق عليه ما لا يليق، وقد أثنى عليه جماعة من العلماء وفضلوه ... » ثم قال - بعد أن ذكر ثناء جماعة من العلماء عليه -: «وَكَانَ يُقَالُ: يُسْتَدَلُّ عَلَى نَبَاهَةِ الرَّجُلِ مِنَ الْمَاضِينَ بِتَبَايُنِ النَّاسِ فِيهِ قَالُوا: أَلاَ تَرَى إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ - عَلَيْهِ السَّلامُ -، أَنَّهُ قَدْ هَلَكَ فِيهِ [فَتَيَانِ] مُحِبٌّ [مُفْرِطٌ] وَمُبْغِضٌ [مُفَرِّطٌ]، وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ " أَنَّهُ يَهْلِكُ فِيهِ رَجُلاَنِ: مُحِبٌّ مُطْرٍ وَمُبْغِضٌ مُفْتَرٍ "، وَهَذِهِ صِفَةُ أَهْلِ النَّبَاهَةِ وَمَنْ بَلَغَ فِي الدِّينِ وَالْفَضْلِ الْغَايَةَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ».