وقد عني مالك - رَحِمَهُ اللهُ - بتأليفه وتدوين الأحاديث الصحيحة فيه حتى قالوا: إنه مكث فيه أربعين سَنَةً يُهَذِّبُهُ وَيُنَقِّحُهُ، ويستدل لذلك بما رواه السيوطي في مقدمة " شرحه للموطأ " عن الأوزاعي، أنه قال: «عَرَضْنَا عَلَى مَالِكٍ " المُوَطَّأَ " فِي أَرْبَعِينَ يَوْمًا فَقَالَ: كِتَابٌ أَلَّفْتُهُ فِي أَرْبَعِينَ سَنَةٍ، أَخَذْتُمُوهُ فِي أَرْبَعِينَ يَوْمًا مَا أَقَلَّ مَا تَفْقَهُونَ فِيهِ».
وقد جرى في " المُوَطَّأ " على أن يُبَوِّبَهُ على أبواب العلم المختلفة، ويذكر في كل باب ما جاء فيه من الحديث عَنْ النَّبِيِّ - صَلََّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثم ما ورد من الآثار عن الصحابة والتَّابِعِينَ، وكانوا في جمهرتهم من أهل المدينة، لأن مالكاً - رَحِمَهُ اللهُ - لم يغادرها، وأحياناً يفسر كلمات الحديث بعد سرده، وَيُبَيِّنُ المراد من بعض عباراته، وكان ينص على عمل أهل المدينة في الأبواب التي جاء فيها من حديث الآحاد ما يعارض ذلك العمل.
أما درجة " المُوَطَّأ " في السُنَّة فقد اختلفت آراء العلماء.
فقال قوم: بأنه مُقَدَّمٌ على " الصَحِيحَيْنِ " لمكانة الإمام مالك - رَحِمَهُ اللهُ -، ولما عرف عنه من التثبت والتمحيص، وحسبك أنه أَلَّفَهُ في أربعين سَنَةٍ، وَمِمَّنْ ذهب إلى هذا الرأي ودافع عنه، ابن العربي، وهو رأي جمهور المالكية.
ومنهم من جعله مع " الصَحِيحَيْنِ " في مرتبة واحدة، وإليه يشير كلام الدهلوي في " حُجَّةُ اللهِ البَالِغَةُ " حيث تحدث في طبقات كُتُبِ السُنَّةِ، وجعل في الطبقة الأولى منها، " المُوَطَّأ " و" الصَحِيحَيْنِ ".
ومنهم من رأى مرتبته دُونَ مرتبة " الصَحِيحَيْنِ "، وهو رأي جمهور المُحَدِّثِينَ، وَيُعبِّرُ عن سِرِّ ذلك ابن حجر حيث يقول:«إِنَّ كِتَابَ مَالِكٍ صَحِيحٌ عِنْدَهُ وَعِنْدَ مَنْ يُقَلِّدُهُ عَلَى مَا اقْتَضَاهُ نَظَرُهُ مِنَ الاحْتِجَاجِ بِالمُرْسَلِ وَالمُنْقَطِعِ وَغَيْرِهِمَا» وقد عرفت عدم اعتداد المُحَدِّثِينَ بالمرسل والمنقطع وما عدا المتصل، فلا جرم إن كانت مرتبة " المُوَطَّأ " - عندهم - دُونَ مرتبة " الصَحِيحَيْنِ ".
وقد أجاب أصحاب القولين عن وجود المرسل والمنقطع في " المُوَطَّأ " بأنها متصلة السند من طرق أخرى، فلا جرم أنها صحيحة من هذا الوجه.