للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

كبيرة يصعب التعبير عنها في العادة إلا بجمل مطولة نسبيا.

ويضاف إلى هذا النقاء في التعبير، وهذا التركيز الشديد في المعنى - حيث لا تقابلنا كلمة زائدة بل اختصار معجز أحيانا - وضوح أخاذ، كأنه تحد سافر بحيث أن رجل الشارع قليل الحظ‍ من المعرفة، يستطيع أن يقول لنفسه: لقد فهمت جيدا. ومع ذلك نجد العمق والمرونة والإيحاء والإشعاع في كل جانب مثل أوجه قطعة الماس البراقة، إلى درجة أن جميع العلوم والفنون الإسلامية تستمد على الدوام من هذا المصدر قواعدها ومبادئها. إنها حقيقة مقررة عرفها الناس جميعا، وهي أن كلا من النبيل والحقير، والسطحي والباحث الدؤوب، يلتقون على فهم القرآن. كأن كل عبارة فيه مفصلة تفصيلا بما يناسب عقلية كل منهم بحسب درجته في العلم والمعرفة.

وكل هذا في موضوعات غير مطروقة في الأدب الجاهلي، ونادرا ما تعرض لها الشعراء والخطباء إلا من بعيد وبصور مبهمة وموجزة، بحيث يحق لنا أن نؤكد بدون تردد أنه من الناحية اللغوية البحتة، كان ظهور القرآن خلقا للغة جديدة، ولأسلوب جديد.

أما ما يبدو أنه فوق طاقة البشر حقا في الأسلوب القرآني، فهو أنه لا يخضع للقوانين النفسية التي بمقتضاها نرى العقل والعاطفة لا يعملان إلا بالتبادل وبنسب عكسية، بحيث يؤدي ظهور إحدى القوتين إلى اختفاء الأخرى. ففي القرآن لا نرى إلا تعاونا دائما في جميع الموضوعات التي يتناولها - بين هاتين النزعتين المتنافرتين.

وبالإضافة إلى الموسيقي الخالدة التي تعلو هذا الأسلوب المتنوع، نرى أن الكلمات ذاتها بمعناها المجازي - سواء أكانت وصفا أو إستدلالا أو سن قاعدة في القانون أو في الأخلاق - تسعى بقوة وتجمع في نفس الوقت بين التعليم والإقناع والتأثير وتمنح القلب والعقل نصيبه المنشود. وعلاوة على ذلك فإن هذا الكلام الرباني وهو يؤثر على هذا النحو، في قوانا المختلفة - يحتفظ‍ دائما وفي أي موضع بهيبة مدهشة وبجلالة قوية لا تتأرجح ولا تضطرب.

<<  <   >  >>