للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وحتى ذلك الوقت كان كل شيء يمر بسلام وكرامة على الأقل من جانب المسلمين، ولم يكن هناك ما ينبئ عن إمكان الإلتجاء إلى القوة. فبعد أن اطمأن الرسول صلى الله عليه وسلم على مصير أتباعه ووصولهم إلى بر الأمان، ورغم الأخطار التي كانت تهدد حياته صلى الله عليه وسلم. لم يتعجل في اللحاق بهم لأنه لم يكن ليغادر مكان دعوته دون إذن صريح من الوحي. ولقد اعتقد أن المطلوب منه هو إطالة بقائه بمسقط‍ رأسه، حيث يتحتم عليه الإستمرار في دعوته، ومعه صاحباه أبو بكر وعلى بن أبي طالب. ولكنه في اليوم السابق لتنفيذ مؤامرة متفق عليها للقضاء على حياته، تلقى الأمر الإلهي بالهجرة، وفي اللحظة التي بدأت الخطوات لتنفيذ هذه المؤامرة الخبيثة، غادر الرسول صلّى الله عليه وسلم مكة سرا مع أحد صاحبيه، وعهد إلى الثاني بأن يغطي انسحابه. وبعد أن نجا بمعجزة من هذا الخطر، ألم يكن ينبغي عليه أن يفكر في الانتقام من أعدائه الذين كانوا يريدون القضاء عليه؟ كلا .. وإذا تتبعنا مراحل نشاطه في العام الأول بعد الهجرة، وشطرا من العام الثاني نجد أنه كان يوجهه لأعمال سلمية نبيلة وبناءة: منها تشييد مسجده، وتنفيذ فريضة الصيام، ووضع نظام الآذان وتنظيم المجتمع داخليا وسليما. كل شيء كان يبدو في ذلك الوقت وكأن المسلمين قد أداروا ظهورهم عن مكة نهائيا، حتى في قبلة الصلاة، إلى أن حان منتصف العام الثاني، حيث بدأوا يعترضون قوافل تجارة قريش تمهيدا لمنازلتهم.

[من أين جاء هذا التغيير المفاجيء؟]

يستحيل علينا - نظرا للأحكام العديدة النزيهة التي اتفق المستشرقون عليها - أن ننسب الباعث إلى نفسية الرسول صلّى الله عليه وسلم، فالإجراءات الحربية في الحقيقة ليست من طبعه ولا من عادته، بل العكس هو الصحيح إذ كثيرا ما جلب عليه تسامحه وعفوه عن المشركين لوما من القرآن (١)، فقد نقل إلينا الأثر كثيرا من عفوه


(١) ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ (الأنفال - ٦٧) إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللهُ لَهُمْ [التوبة: ٨٠] ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى ... [التوبة: ١١٣].

<<  <   >  >>