ينبغي أن تسبق دراسة مصدر أي كتاب دراسة محتواه. أما القرآن فإن دراسة مصدره تستوجب مخالفة هذه القاعدة. لأن فكرة مصدره الإلهي ليست فقط جزءا من دعوته، وإنما هي الجزء الأساسي منها. ومن أول القرآن إلى آخره نراه يتحدث إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أو يتحدث عنه ولا يتركه أبدا يعبر عن فكره الشخصي.
وفي كل جزء منه يتكلم الله تبارك وتعالى ليصدر أمرا، أو ليشرع قانونا، ليخبر أو لينذر. فنقرأ «يا أَيُّهَا النَّبِيُّ} .... {يا أَيُّهَا الرَّسُولُ} ... {إِنّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ} ... {إِنّا أَرْسَلْناكَ} .... {اُتْلُ عَلَيْهِمْ} .... {بَلِّغْ} .... افعل كذا .... لا تفعل كذا
{سَيَقُولُونَ} .... {قُلْ} ... » وحتى عندما لا يتضمن النص بعض علامات الأمر (مثل سورة الفاتحة) فكل شيء يدل عليها.
ولكن كيف لا ننسب كلام القرآن والأفكار التي يتضمنها إلى الشخص الذي جاء به، باعتبارها نابعة من فكره الشخصي أو منقولة مما تعلمه في بيئته بالطريق الطبيعي؟ كيف يمكن أن نجعل من هذا الإنسان مجرد أداة استقبال يقدم كتابه جاهزا وتاما من مصدر خارجي وغير بشري؟ لا شك أن مثل هذا الإدعاء يبلبل الأفكار لمخالفته للقوانين النفسية ولو في مظهرها العادي على الأقل.
لا شك أن محمدا صلى الله عليه وسلم وهو يؤكد هذا القول لم يكن أول من أثار قضية الوحي. بل إنه كان أكثر تواضعا في هذا الشأن من موسى عليه السلام الذي - كما يقول القرآن - تلقى التوراة في لقاء مباشر بينه وبين الله تبارك وتعالى، حيث سمع كلام الله ذاته. أما بالنسبة لمحمد صلى الله عليه وسلم فالقرآن قول رسول سماوي. وسيط بينه وبين الله:{إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ * مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ}[التكوير: ١٩ - ٢١] وفيما عدا هذا الاختلاف فإنهما متفقان في نسبة ما تلقياه إلى ما وراء الكون.
فأما المؤمنون بالوحي من حيث المبدأ العام، فمن حقهم ألا يطبقوه على ظاهرة معينة إلا بعد استنفاد جميع فرص التفسير الطبيعي لهذه الظاهرة. وإذا ما رضخوا