للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[مقام العنصر العملي في القرآن وفي العقيدة]

وبلغت أهمية الجانب العملي في القرآن، أنه يتكرر ذكره كثيرا بصراحة، وكشرط‍ لا غنى عنه للفلاح والسعادة الخالدة في الآخرة. وعندما لا ينص القرآن على ذلك في عبارته في موضع ما، فإن كلمه «مؤمن» تتضمنه وتلمح إليه بما يتفق مع مفهوم الإيمان حسب التعريف السابق. أليس في هذا الإصرار المزدوج نوع من التدرج السلمي بين هذين العنصرين؟ فمن المتفق عليه أن الإيمان شرط‍ لازم للنجاة يوم القيامة. فهل الأمر كذلك في شأن تنفيذ الشريعة؟ وإلى أي مدى؟ هل الخطيئة الكبرى التي لا تتبعها توبة لا تغفر بعد الموت؟ أو بمعنى آخر هل يترتب عليها هلاك لا رجوع فيه؟ (كما يقول غالبية المعتزلة) أو تستوجب عقوبة محدودة بزمن؟ (كما يرى بعض المعتزلة) أو على عكس ذلك إن إيمان المذنب يصحح الموقف تلقائيا برحمة من الله؟ (طبقا لرأي صفوة المرجئة) (١)، أو أن لله الحق في العفو عن بعض الذنوب لبعض المؤمنين بشروط‍ معينة، من غير أن تحدد ما هي الذنوب وما هي صفات المؤمنين؟ (حسب رأي الأشعريين).

إن هذه المناقشات العقيدية المتعلقة بالجوانب الثانوية والسلبية للمشكلة (أي بدرجة العقوبة الإلهية ومدتها وثبوتها عن الذنوب المختلفة) لا تضع خارج نطاق البحث موضوع المسؤولية الأخلاقية والاجتماعية فحسب، بل إنها لا تتعرض


(١) وهي أقلية زهيدة جدا من المحدثين الشفهيين مشكوك في أصلها التاريخي وكذلك في فكرة مذهبها (تفسير الرازي المجلد الأول ص ٤٠٧) وأصل فعل «أرجأ» مأخوذ من القرآن وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللهِ [التوبة: ١٠٦] ويعني عدم الحكم مقدما في مصائر الناس الأخروية، وتفويض الله في شأنهم. وهذا لا يمنع بطبيعة الحال أن يحكم الإنسان على نفسه وعلى غيره في الحياة الدنيا بحسب سلوكه. ومن هنا يقال إن كل شيء متوقف على الإيمان، وأنه لا ضرر مع الإيمان، وهذا في الواقع بعيد عن الحقيقة، لأن معنى ذلك أننا نتعجل في حكمنا بطريقة أخرى، وأننا ندعو في نفس الوقت إلى ما يخالف القانون الأخلاقي والقانون الاجتماعي. ولكننا نعلم أن بعض المرجئة - مع امتناعهم عن إبداء الرأي في الخلافات الدينية والمنازعات السياسية - ثاروا على الحجاج (ابن سعد المجلد الرابع ص ٢٠٥) ومن المعلوم أيضا أن ابن سيرين المشهور بامتناعه وتسامحه في شأن المؤمنين كان شديد القسوة على نفسه في سلوكه الخاص (تهذيب النووي - ص ١٠٨).

<<  <   >  >>