للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

في مجال هذه التجربة الحية يتعين علينا أن نبحث عن المصدر الحقيقي لتعاليم الرسول صلّى الله عليه وسلم. فإن كل درس من القرآن كان فصلا جديدا يضاف إلى ذخيرته العلمية. إنه كالمصباح الذي تنطفئ أضواؤه في الوقت الذي تتوقف فيه صلصلة النص المنزل. وبعيدا عن ضوء هذا العلم الرباني. يعود النبي صلّى الله عليه وسلم إلى حدود قدرته البشرية. فأمام الماضي والمستقبل، وأمام كل ما يصعب على الذكاء الإنساني السليم اختراق حجبه، لا يسعه إلا أن يضع علامة استفهام كغيره من الناس بكل أمانة وبكل تواضع.

[من أين ينبع إذن هذا الوحي؟ أليس من أعماق نفسه؟]

إن الوقائع تثبت لنا عكس ذلك: فطابع الأفكار التي تبلّغ إليه عن طريق الوحي إما تجريبي، وإما فوق مستوى العقل. أي أنها بعيدة كل البعد عن مجال العقل الصافي، وكذلك عن الشعور المحصور في منابعه العادية. والجدير بالملاحظة هنا - وهو ما يتعارض تماما مع إلهام الشعراء والفلاسفة - أن الأمر ليس أفكارا تنبع من داخل نفسه. وإنما هو سماع صوتي صافي. أي أن الأفكار لا تسبق الحديث هنا.

فضلا عن أنها تلازمه. ولقد انزعج الرسول صلّى الله عليه وسلم ذاته من هذه الظاهرة السمعية في بداية الأمر. فعندما أراد أن يلتقط آيات الوحي التي يتعين عليه تبليغها حرفيا إلى قومه فيما بعد، وجد نفسه مضطرا لأن يكرر النص لنفسه كلمة كلمة أثناء تلقي الوحي. ولم يتوقف عن اتباع هذه الطريقة إلا عندما تلقى أمرا صريحا في هذا الشأن، مع ضمان بأن الله سيعلمه إياه ويشرحه له (١). {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ} هذه كلمة تستحق أن تسترعي الانتباه وتضعنا أمام وحي نصي بدون قيد ولا شرط‍.

ومن المعلوم أيضا موقف الرسول صلّى الله عليه وسلم المليء بالخشية والتقديس نحو القرآن المنزل عليه، وإيمانه بأنه كلام الله ذاته، ولم يكن في مقدوره أن يدخل عليه أي


(١) لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ. إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ. فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ. ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ [القيامة: ١٦ - ١٩].

<<  <   >  >>