وفي مشاغله اليومية لم يرتكب عملا يشينه، ولم يشترك في عبادة الأوثان، وطبقا لما يقول أعداؤه، فإنه لم يكذب أبدا، والشهادة النموذجية العلنية في هذا الموضوع، قدمها أبو سفيان زعيم المعسكر المناويء للإسلام، والذي لم يعتنق الإسلام إلا بعد عامين من هذه الشهادة التي استخلص منها الأمبراطور هرقل أنه «لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله (١).
(١) هذه الجملة جزء من رواية تاريخية عربية رومانية ذات قيمة عظيمة، وإن كانت غير معروفة في المراجع الأوروبية وهي تتعلق باستجواب دقيق أجراه هرقل لزعيم قريش أبي سفيان، والاستجواب منهجي وكله ذكاء وحكمة ويستحق النقل هنا. فبعد أن انتصر هرقل على فارس عام ٦٢٨ م كان الأمبراطور الروماني بسوريا عندما جاءه كتاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم يدعوه إلى الإسلام مما أثار دهشته. ورغبة منه في التأكد من مضمون الكتاب أمر الأمبراطور بأن يحضر إليه بعض مواطني هذا الرسول صلّى الله عليه وسلم لكي يسألهم عنه. يقول أبو سفيان: «إن هرقل أرسل إليه في ركب من قريش وكانوا تجارا بالشام في المدة التي كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم عاهد فيها أبا سفيان وكفار قريش. وكان ذلك أثناء الهدنة المعقودة بينهم وبين النبي صلّى الله عليه وسلم في السنة السادسة للهجرة، فدعاهم هرقل إلى مجلسه وحوله عظماء الروم ودعا بترجمانه فقال أيكم أقرب نسبا لهذا الرجل الذي يزعم أنه نبي فقال أبو سفيان: فقلت أنا أقربهم نسبا، فقال: أدنوه مني وقربوا أصحابه فاجعلوهم عند ظهره ثم قال لترجمانه قل لهم إني سائل هذا الرجل فإن كذبني فكذبوه فو الله لولا الحياء من أن يأثروا على كذبا لكذبت عنه ثم كان أول ما سألني عنه أن قال: كيف نسبه فيكم، قلت: هو فينا ذو نسب. قال: فهل قال هذا القول منكم أحد قط قبله قلت: لا. قال فهل كان من آبائه من ملك قلت: لا. قال: أفاشراف الناس يتبعونه أو ضعفاؤهم فقلت بل ضعفاؤهم. قال أيزيدون أم ينقصون: قلت بل يزيدون. قال: فهل يرتد أحد منهم سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه، قلت: لا. قال: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال، قلت: لا. قال: فهل يغدر، قلت: لا، ونحن منه في مدة لا ندري ما هو فاعل فيها. قال: ولم تمكني كلمة أدخل فيها شيئا غير هذه الكلمة، قال: فهل قاتلتموه، قلت: نعم. قال: فكيف كان قتالكم إياه، قلت: الحرب بيننا وبينه سجال ينال منا وننال منه. قال: ماذا يأمركم، قلت: يقول اعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئا واتركوا ما يقول آباؤكم ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة. فقال للترجمان: قل له سألتك عن نسبه فذكرت أنه فيكم ذو نسب، فكذلك الرسل تبعث في نسب قومها، وسألتك هل قال أحد منكم هذا القول فذكرت أن لا فقلت: لو كان أحد قال هذا القول قبله لقلت رجل يأتسي بقول قيل قبله. وسألتك هل كان من آبائه من ملك فذكرت أن لا، قلت: لو كان من آبائه من ملك قلت: رجل يطلب ملك أبيه وسألتك هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال فذكرت أن لا، فقد أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله. وسألتك أشراف الناس اتبعوه أم ضعفاؤهم فذكرت أن ضعفاؤهم اتبعوه وهم أتباع الرسل. وسألتك أيزيدون أم ينقصون فذكرت أنهم يزيدون وكذلك أمر الإيمان حتى يتم. وسألتك أيرتد أحد سخطة لدينه بعد أن يدخل فيه فذكرت أن لا وكذلك الإيمان حين تخالط بشاشته القلوب. وسألتك هل يغدر فذكرت أن لا وكذلك الرسل لا تغدر. وسألتك بما يأمركم فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا وينهاكم عن عبادة الأوثان ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف فإن كان ما تقول حقا فسيملك موضع قدمي هاتين وقد كنت أعلم أنه خارج لم أكن أظن أنه منكم فلو أني أعلم أني أخلص إليه لتجشمت لقاءه ولو كنت عنده لغسلت عن قدمه. ثم دعا بكتاب رسول الله صلّى الله عليه وسلم الذي بعث به دحية إلى عظيم بصرى فدفعه إلى هرقل فقرأه ... قال أبو سفيان: فلما -