للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[الحنفاء]

وفي وسط‍ هذه الجموع من الناس ذات الجهل المفضوح، كانت تتميز صفوة قليلة العدد تعرف في الأثر باسم «الحنفاء»، أي الثائرين على الرأي العام، والتي اعتمد عليها «رنان» ليصور لنا خصائص مجتمع العرب في هذا العصر. لقد كانت هذه الفئة عددا ضئيلا يعد على الأصابع، بينما جموع هذا الشعب الغفير لم تعر لوجود هذه الفئة أي اهتمام. وعلينا أن نرجع إلى أدب العصر الجاهلي لكي نستوثق من ذلك. فقد كان الحاضرون في سوق عكاظ‍ لا يتناظرون في الدين، وإنما في المفاخر الدنيوية. وكانت كل قبيلة تستعرض عبقريتها الأدبية، ومغامراتها في الفروسية، ومفاخر الآباء والأجداد. ولا نكاد نجد أثرا للفكر الديني في أشهر القصائد المعروفة بالمعلقات الذهبية.

وبعد هذا كله، ماذا كانت دعوة هؤلاء «المصلحين» السابقين لمحمد؟ يقينا: لا شيء!! سوى أنهم أناس متمردون على عصرهم لأن إشراك مواطنيهم، وعاداتهم القاسية، وإباحيتهم، لم تكن لترضى عنه نفوسهم، فتطلعوا إلى دين صحيح ظاهر حاولوا التماسه خارج محيطهم ولم يكن عندهم عنه أية فكرة دقيقة قادرة على أن تنبئ عن دعوة القرآن ولو من بعيد. ولقد اعترف زيد بن عمرو بن نفيل - أكثر هذا الفريق حزما واستقلالا - أنه كان يجهل كيفية عبادة الله (١).

وكل ما كان يمكن استخلاصه من وجود هؤلاء الحنفاء، وهو ما صرح به رنان ذاته عن حق - إنه كان يوجد في ذلك الوقت «نوع من القلق والانتظار المبهم» الذي كان يتفاعل في «هذه النفوس الممتازة نتيجة مشاعر وتوقعات ورغبات غير محددة» (صفحة ١٠٩٠). ومهما ردد الناس من عبارات: الله والدين والأنبياء والكتب والجنة في هذه المرحلة، فلم يكن لهذه الكلمات صدى في نفوسهم عن أية فكرة واضحة ومتميزة.


(١) سيرة ابن هشام المجلد الأول ص ١٤٤.

<<  <   >  >>