المدن نجد أن الأفكار والعادات اليونانية التي كانت تتمثل في طبقة الموظفين الإداريين لم تتأصل إلا في أقلية من التجار الرأسماليين. ولا حاجة إلى أن نضيف أن المستعمرين الإغريق أنفسهم قد خضعوا فيما بعد لفاتحين آخرين، وأن هذه المدن دمرت تدريجيا في ظل حكم الأمبرطورية الرومانية. ولكي ندرك الطابع العابر لهذا الإصلاح غير المتجانس، يكفي أن نتذكر بعض النقاط التاريخية المعروفة. فبعد ما يقرب من عشرين عاما من وفاة الإسكندر تمزقت أمبراطوريته بلا عودة إلى ثلاث ممالك (عام ٣٠١ قبل الميلاد). ثم وقعت عملية بتر على مراحل كما يلى: بعد خمسين سنة استولى «البرتيون» على آسيا العليا (٢٥٠ ق م)، ثم سقطت آسيا الوسطى تحت الحكم الروماني بعد ذلك بستين عاما (١٩٠ ق م)، واستقلت فلسطين كدولة يهودية بعد خمسين سنة (١٤٤ - ٦٤ ق م). وفي نفس التاريخ تقريبا أصبح قلب الوطن ذاته (اليونان في عام ١٤٦ ق م ومقدونيا في عام ١٤٢ ق م) مجرد ولاية رومانية. وإذا كانت الملكية المصرية قد ظلت بعيدة عن هذه الأحداث ولم تخضع لروما إلا في عام ٣١ ق م، فإن أفولها في الواقع، بدأ بعد البطالمة الثلاثة الأوائل (٢٢١ ق م). ولكن المسألة الحقيقية التي تستلفت النظر ليست في هذا المجال.
فإن تركنا المظهر المادي والحضاري جانبا وبحثنا في المجال الفكري، فمما لا يمكن إنكاره أن الإسكندر لم ينقل معه الفكر اليوناني، وإنما تبنى بدون قيد ولا شرط الأفكار التي كانت سائدة في البلاد المغلوبة في ذلك الوقت واعتنق عقائدها.
أما خلفاؤه فلم يكونوا خيرا منه في هذا المجال، إذ لم يغيروا شيئا على الإطلاق.
وخلال الحكم اليوناني والروماني بصفة عامة، وجدت الأفكار الفلسفية والدينية التي كانت رائجة في الشرق في ذلك الوقت، ولا سيما في الاسكندرية، ولم تكن مستوردة من اليونان لأنها في الواقع كانت مذاهب شرقية بحتة - وجدت الفرصة مواتية لكي تنتقل عن طريق اليونانيين إلى أوروبا باسم الأفلاطونية الجديدة أو المسيحية. وعلى هذا النحو يحق لنا أن نقول إن الشرق في الحقيقة هو الذي غلب فاتحيه. ثم جاء الإسلام أخيرا فتغير كل شيء بين يوم وليلة. ولم يقتصر في هذه