للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وتركوا شرع ربهم وابتدعوا في دينهم، وأضاعوا العلم الذي آتاهم الله ولم يرفعوا به رأسًا، ونصبوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا وآلهة من دون الله يتبعونهم في تحليل ما حرم الله وتحريم ما أحل الله، وذلك هو اتّخاذهم إياهم أربابًا من دون الله؛ وقد غلوا بذلك في دينهم غلوًّا عظيمًا، وضلّوا بذلك ضلالًا مبينًا، ونسبوا لله سبحانه وتعالى الولد، وقالوا بالتثليث، وحرفوا ما أنزل الله إليهم، ولذلك وغيره استحقوا الوصف بالضلال، والجزاء لليهود والنصارى من جنس العمل، {وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (٤٩)} [الكهف].

وخلاصة «القول في ذلك أن أفاعيل اليهود من اعتدائهم، وتعنتهم، وكفرهم مع رؤيتهم الآيات، وقتلهم الأنبياء، أمور توجب الغضب في عرفنا، فسمى تعالى ما أحل بهم غضبًا، والنصارى لم يقع لهم شيء من ذلك، إنما ضلوا من أول كفرهم دون أن يقع منهم ما يوجب غضبًا خاصًا بأفاعيلهم، بل هو الذي يعم كلَ كافرٍ وإن اجتهد، فلهذا تقررت العبارة عن الطائفتين بما ذكر» (١).

وختامًا فهذه درة من درر ابن القيم، تُساقُ ليُختم بها هذا المبحثُ الهام لتكون كالطابع عليه، يقول -رحمه الله-: «على قدر ثبوت قدم العبد على هذا الصراط الذي نصبه الله لعباده في هذه الدار، يكون ثبوت قدمه على الصراط المنصوب على متن جهنم، وعلى قدر سيره على هذا الصراط يكون سيره على ذاك الصراط؛ فمنهم من يمر كالبرق، ومنهم من يمر كالطيف، ومنهم من يمر كالريح، ومنهم من يمر كشد الركاب، ومنهم من يسعى سعيًا، ومنهم من يمشي مشيًا، ومنهم من يحبو حبوًا، ومنهم المخدوش المسلَّم، ومنهم المكردس في النار» (٢).

وإن دعاء العبد بالهداية لطريق وسبيل المنعم عليهم يتضمن محبتهم ومحبة الطريق الذي سلكوه، وهذه المحبة مبنية على موالاتهم، وإن دعاءه ربه أن يجنبه طريق المغضوب عليهم والضالين يتضمن بغضهم وكراهيتهم وبغض وكراهية سبيلهم، وهذا البغض وتلك الكراهية مبنيان على البراءة منهم ومن سبيلهم، والولاء والبراء أوثق


(١) المحرر الوجيز (١: ٨٨ - ٩٠).
(٢) مدارج السالكين (١٦: ١).

<<  <   >  >>