للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

إلَّا بِمَانِعٍ وَلَا بُدَّ مِنْ دَلَالَةِ التَّمْيِيزِ وَلَا بُدَّ قَبْلَ ذَلِكَ مِنْ قِيَامِ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّهُ لِلْحَالِ شَاهِدٌ، وَعَلَى هَذَا اخْتِلَافُنَا فِي تَعْلِيلِ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ بِالْوَزْنِ وَأَنْكَرَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - التَّعْلِيلَ فَلَا يَصِحُّ الِاسْتِدْلَال بِأَنَّ النُّصُوصَ فِي الْأَصْلِ مَعْلُومَةٌ إلَّا بِإِقَامَةِ الدَّلِيلِ فِي هَذَا النَّصِّ عَلَى الْخُصُوصِ أَنَّهُ مَعْلُولٌ احْتَجَّ أَهْلُ الْمَقَالَةِ الْأُولَى بِأَنَّ النَّصَّ مُوجِبٌ بِصِيغَتِهِ وَبِالتَّعْلِيلِ يَنْتَقِلُ حُكْمُهُ إلَى مَعْنَاهُ، وَذَلِكَ كَالْمَجَازِ مِنْ الْحَقِيقَةِ

ــ

[كشف الأسرار]

وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَعَلَ الِاسْتِصْحَابَ حُجَّةً مُلْزِمَةً عَلَى الْغَيْرِ مَعَ أَنَّهُ تَمَسَّكَ بِالْأَصْلِ لَمْ يَحْتَجْ إلَى إقَامَةِ الدَّلِيلِ فِي كُلِّ نَصٍّ أَنَّهُ شَاهِدٌ لِلْحَالِ بَلْ التَّعْلِيلُ يَكُونُ مُلْزِمًا عِنْدَهُ نَظَرًا إلَى أَنَّ الْأَصْلَ فِي النُّصُوصِ التَّعْلِيلُ

وَإِنَّمَا قَالَ: وَهَذَا أَشْبَهُ؛ لِأَنَّ هَذَا الْمَذْهَبَ لَمْ يُنْقَلْ عَنْ الشَّافِعِيِّ نَصًّا بَلْ اُسْتُدِلَّ بِمَسَائِلِهِ عَلَيْهِ، وَأَسْنَدَ صَاحِبُ الْمِيزَانِ هَذَا الْقَوْلَ إلَى الشَّافِعِيِّ وَإِلَى بَعْضِ أَصْحَابِنَا أَيْضًا

وَالْقَوْلُ الرَّابِعُ: قَوْلُنَا إنَّا نَقُولُ هِيَ مَعْلُولَةٌ شَاهِدَةٌ، أَيْ الْأَصْلُ فِيهَا التَّعْلِيلُ عِنْدَنَا أَيْضًا وَمَعْلُولَةٌ، شَاهِدَةٌ بِمَعْنَى وَاحِدٍ إلَّا بِمَانِعٍ مِثْلَ النُّصُوصِ الْوَارِدَةِ فِي الْمُقَدَّرَاتِ مِنْ الْعِبَادَاتِ وَالْعُقُوبَاتِ

وَلَا بُدَّ فِي ذَلِكَ أَيْ فِي جَوَازِ التَّعْلِيلِ مِنْ دَلَالَةِ التَّمْيِيزِ أَيْ دَلِيلٍ يُمَيِّزُ الْوَصْفَ الْمُؤَثِّرَ مِنْ سَائِرِ الْأَوْصَافِ وَلَا بُدَّ قَبْلَ ذَلِكَ أَيْ قَبْلَ الشُّرُوعِ فِي التَّعْلِيلِ وَتَمْيِيزِ الْوَصْفِ الْمُؤَثِّرِ مِنْ إقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَى أَنَّهُ أَيْ النَّصَّ نُرِيدُ اسْتِخْرَاجَ الْعِلَّةِ مِنْهُ لِلْحَالِ شَاهِدٌ أَيْ مَعْلُولٌ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ وَهُوَ أَنَّ الْأَصْلَ فِي النُّصُوصِ التَّعْلِيلُ يَصْلُحُ لِلدَّفْعِ لَا لِلْإِلْزَامِ، وَهَذَا الْقَوْلُ مَذْهَبُ بَعْضِ أَصْحَابِنَا كَذَا ذَكَرَ فِي الْمِيزَانِ وَإِنْ كَانَ الْقَاضِي الْإِمَامُ وَالشَّيْخَانِ ذَكَرُوهُ مَذْهَبًا لِأَصْحَابِنَا عَلَى الْإِطْلَاقِ.

١ -

وَاخْتَارَ صَاحِبُ الْمِيزَانِ الْقَوْلَ الثَّالِثَ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الْعَامَّةِ، فَقَالَ: إنَّ أَحْكَامَ اللَّهِ - تَعَالَى - مَبْنِيَّةٌ عَلَى الْحُكْمِ وَمَصَالِحِ الْعِبَادِ، وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِنَا: النُّصُوصُ مَعْلُولَةٌ أَيْ الْأَحْكَامُ الثَّابِتَةُ بِهَا مُتَعَلِّقَةٌ بِمَعَانٍ وَمَصَالِحَ وَحِكَمٍ فَإِذَا عُقِلَ ذَلِكَ الْمَعْنَى يَجِبُ الْقَوْلُ بِالتَّعْدِيَةِ، وَلِأَنَّ الْأَصْلَ إنْ كَانَ وَاحِدًا وَاسْتَخْرَجَ مِنْهُ كُلُّ مَنْ خَالَفَ عِلَّةً لِتَعَلُّقِ الْحُكْمِ بِهَا كَانَ الْأَصْلُ مَعْلُولًا بِاتِّفَاقِهِمْ، وَإِنْ كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ اسْتَخْرَجَ مِنْ أَصْلٍ عَلَى حِدَةٍ فَمَتَى عَلَّلَهُ بِوَصْفٍ مُؤَثِّرٍ، وَوَجَدَ فِيهِ مَا هُوَ حَدُّ الْعِلَّةِ يَكُونُ مَعْلُولًا فَلَا حَاجَةَ إلَى قِيَامِ النَّصِّ وَالْإِجْمَاعِ عَلَى كَوْنِهِ مَعْلُولًا

وَذَكَرَ فِي بَعْضِ نُسَخِ أُصُولِ الْفِقْهِ زَعَمَ بِشْرٌ الْمَرِيسِيِّ وَأَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ أَنَّ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ الْقِيَاسِ أَنْ يَنْعَقِدَ الْإِجْمَاعُ عَلَى كَوْنِ حُكْمِ الْأَصْلِ مُعَلَّلًا، أَوْ يَقُومَ نَصٌّ عَلَيْهِ، وَزَعَمَ عُثْمَانُ الْبَتِّيُّ أَنَّ الْقِيَاسَ لَا يَجُوزُ عَلَى أَصْلٍ حَتَّى يَقُومَ دَلِيلٌ خَاصٌّ عَلَى جَوَازِ الْقِيَاسِ عَلَيْهِ، وَكِلَاهُمَا بَاطِلٌ؛ لِأَنَّ مَدْرَكَ الِاحْتِجَاجِ بِالْقِيَاسِ إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ وَقَدْ عَلِمْنَا مِنْ تَتَبُّعِ أَحْوَالِهِمْ فِي مَجْرَى اجْتِهَادَاتِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَقِيسُونَ الْفَرْعَ عَلَى الْأَصْلِ عِنْدَ ظَنِّ وُجُودِ مَا يُظَنُّ أَنَّهُ عِلَّةٌ فِي الْأَصْلِ فِي الْفَرْعِ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى دَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِ الْأَصْلِ مُعَلَّلًا أَوْ دَلِيلٍ خَاصٍّ عَلَى جَوَازِ الْقِيَاسِ عَلَيْهِ حَتَّى قَاسَ بَعْضُهُمْ قَوْلَهُ: أَنْتِ عَلَيَّ حَرَامٌ عَلَى الطَّلَاقِ، وَبَعْضُهُمْ عَلَى الظِّهَارِ، وَبَعْضُهُمْ عَلَى الْيَمِينِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَقُومَ دَلِيلٌ مِنْ نَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ عَلَى كَوْنِ تِلْكَ الْأُصُولِ مُعَلَّلَةً، وَلَا عَلَى جَوَازِ الْقِيَاسِ عَلَيْهَا، وَلَمْ يُنْكِرْ الْبَعْضُ عَلَى بَعْضٍ، وَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ بِأَنَّ مَا ذَكَرْت فِي الْأَصْلِ غَيْرُ مُتَّفَقٍ عَلَيْهِ مِمَّا أَدَّى إلَى خِلَافِ إجْمَاعِهِمْ بَاطِلٌ.

١ -

قَوْلُهُ (احْتَجَّ أَهْلُ الْمَقَالَةِ الْأُولَى) وَهُمْ الَّذِينَ قَالُوا بِأَنَّ الْأَصْلَ فِي النُّصُوصِ عَدَمُ التَّعْلِيلِ بِأَنَّ النَّصَّ قَبْلَ التَّعْلِيلِ يَثْبُتُ الْحُكْمُ بِصِيغَتِهِ عَلَى مُوجِبِ اللُّغَةِ وَلَيْسَ الْمَعْنَى الشَّرْعِيُّ مِمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ النَّصُّ لُغَةً؛ وَلِهَذَا اخْتَصَّ بِهِ الْفُقَهَاءُ دُونَ أَهْلِ اللُّغَةِ وَبِالتَّعْلِيلِ يَتَغَيَّرُ ذَلِكَ الْحُكْمُ بِانْتِقَالِهِ مِنْ الصِّيغَةِ إلَى الْمَعْنَى؛ إذْ لَوْ لَمْ يَنْتَقِلْ لَا يُمْكِنُ التَّعْدِيَةُ أَلَا تَرَى حُكْمَ النَّصِّ فِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «الْحِنْطَةُ بِالْحِنْطَةِ مِثْلٌ بِمِثْلٍ وَالْفَضْلُ رِبًا» حُرْمَةُ فَضْلِ الْحِنْطَةِ عَلَى الْحِنْطَةِ فِي الْبَيْعِ وَبِالتَّعْلِيلِ يَصِيرُ حُكْمُهُ بَيْعَ الْمَكِيلِ

<<  <  ج: ص:  >  >>