للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فَلَا تُتْرَكُ إلَّا بِدَلِيلٍ أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَوْصَافَ مُتَعَارِضَةٌ.

وَالتَّعْلِيلُ بِالْكُلِّ غَيْرُ مُمْكِنٍ وَبِكُلِّ وَصْفٍ مُحْتَمَلٍ فَكَانَ الْوَقْفُ أَصْلًا، وَاحْتَجَّ أَهْلُ الْمَقَالَةِ الثَّانِيَةِ بِأَنَّ الشَّرْعَ لَمَّا جَعَلَ الْقِيَاسَ حُجَّةً لَا يَصِيرُ حُجَّةً إلَّا بِأَنْ يَجْعَلَ أَوْصَافَ النَّصِّ عِلَّةً وَشَهَادَةً صَارَتْ الْأَوْصَافُ كُلُّهَا صَالِحَةً فَصَلَحَ

ــ

[كشف الأسرار]

بِالْمَكِيلِ فِي الْجِنْسِ سَوَاءٌ كَانَ حِنْطَةً أَوْ غَيْرَهَا ثُمَّ الْمَعْنَى الشَّرْعِيُّ مِنْ الصِّيغَةِ بِمَنْزِلَةِ الْمَجَازِ مِنْ الْحَقِيقَةِ فَإِنَّ مَعْرِفَةَ صِيغَةِ النَّصِّ تَتَوَقَّفُ عَلَى السَّمَاعِ تَوَقُّفَ مَعْرِفَةِ الْحَقِيقَةِ عَلَيْهِ، وَمَعْرِفَةُ الْمَعْنَى الشَّرْعِيِّ مِنْ النَّصِّ لَا تَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ كَمَعْرِفَةِ الْمَجَازِ فَكَانَ الِاشْتِغَالُ بِالتَّعْلِيلِ تَغْيِيرًا لِحُكْمِ النَّصِّ وَتَرْكًا لِلْحَقِيقَةِ إلَى الْمَجَازِ بَلْ أَبْعَدُ؛ لِأَنَّ الْمَجَازَ أَحَدُ نَوْعَيْ الْكَلَامِ وَالْمَعْنَى الْمُسْتَنْبَطُ لَيْسَ مِنْ أَنْوَاعِ النَّصِّ، وَلَا مِنْ أَنْوَاعِ الْكَلَامِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ الْأَصْلُ هُوَ الْعِلْمَ بِصِيغَةِ النَّصِّ دُونَ مَعْنَاهُ فَلَا يَجُوزُ تَرْكُ هَذَا الْأَصْلِ وَتَغْيِيرُهُ إلَّا بِدَلِيلٍ كَمَا لَا يَجُوزُ تَرْكُ الْحَقِيقَةِ وَتَغْيِيرُ مَعْنَاهَا إلَّا بِدَلِيلٍ وَذَلِكَ إشَارَةٌ إلَى الْمَعْنَى أَوْ إلَى انْتِقَالِ الْحُكْمِ وَالضَّمِيرُ فِي فَلَا يُتْرَكُ رَاجِعٌ إلَى النَّصِّ.

ثُمَّ اسْتَوْضَحَ هَذَا بِذِكْرِ دَلِيلٍ آخَرَ فَقَالَ أَلَا تَرَى أَنَّ الْأَوْصَافَ مُتَعَارِضَةٌ يَعْنِي يَقْتَضِي كُلُّ وَصْفٍ مِنْ أَوْصَافِ النَّصِّ غَيْرَ مَا يَقْتَضِيهِ الْآخَرُ فَإِنَّ وَصْفَ الطَّعْمِ فِي حَدِيثِ الرِّبَا يَقْتَضِي حُرْمَةَ بَيْعِ التُّفَّاحَةِ بِالتُّفَّاحَتَيْنِ وَإِبَاحَةَ بَيْعِ قَفِيزٍ مِنْ الْجِصِّ بِقَفِيزَيْنِ مِنْهُ عَلَى خِلَافِ مَا يَقْتَضِيهِ الْقَدْرُ وَالْجِنْسُ

وَالتَّعْلِيلُ بِالْكُلِّ أَيْ بِجَمِيعِ أَوْصَافِ النَّصِّ بِأَنْ يَجْعَلَ الْكُلَّ عِلَّةً وَاحِدَةً غَيْرُ مُمْكِنٍ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ لَا يُوجَدُ فِي غَيْرِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فَالتَّعْلِيلُ يُوجِبُ انْسِدَادَ بَابِ الْقِيَاسِ لِاقْتِضَائِهِ قَصْدَ الْحُكْمِ عَلَى النَّصِّ

أَوْ التَّعْلِيلُ بِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَوْصَافِ بِأَنْ يَجْعَلَ كُلَّ وَصْفٍ عِلَّةً غَيْرُ مُمْكِنٍ لِإِفْضَائِهِ إلَى التَّنَاقُضِ فَإِنَّ التَّعْلِيلَ بِالْقَدْرِ وَالْجِنْسِ يُوجِبُ خِلَافَ مَا يُوجِبُهُ التَّعْلِيلُ كَمَا قُلْنَا أَوْ التَّعْلِيلُ بِالْقَدْرِ وَالْجِنْسِ يُوجِبُ التَّعْدِيَةَ إلَى الْجِنْسِ وَالنُّورَةِ وَالْحَدِيدِ وَغَيْرِهَا، وَالتَّعْلِيلُ بِالطَّعْمِ وَالثَّمَنِيَّةِ يُوجِبُ قَصْرَ الْحُكْمِ عَلَى الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ، وَهُوَ الطَّعَامُ فِي قَوْلِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «لَا تَبِيعُوا الطَّعَامَ بِالطَّعَامِ، وَالذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ» فِي حَدِيثِ الْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ، وَالتَّعْدِيَةُ وَعَدَمُهَا أَمْرَانِ مُتَنَاقِضَانِ فَيَكُونُ التَّعْلِيلُ الْمُؤَدِّي إلَيْهِ بَاطِلًا

وَبِكُلِّ وَصْفٍ مُحْتَمَلٍ يَعْنِي بَعْدَمَا تَحَقَّقَتْ الْمُعَارَضَةُ وَلَمْ يُمْكِنْ التَّعْلِيلُ بِالْجَمِيعِ وَبِكُلِّ وَصْفٍ كَمَا قُلْنَا لَا يُمْكِنُ التَّعْلِيلُ بِوَاحِدٍ مِنْهَا أَيْضًا؛ لِأَنَّ كُلَّ وَصْفٍ عَيَّنَهُ الْمُجْتَهِدُ لِلتَّعْلِيلِ بِهِ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمَعْنَى الْمُوجِبَ لِلْحُكْمِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ لَا يَكُونَ، وَالْمُحْتَمَلُ لَا يَكُونُ حُجَّةً؛ إذْ الْحُجَّةُ لَا تَثْبُتُ بِالِاحْتِمَالِ وَالشَّكِّ فَكَانَ الْوَقْفُ أَيْ الْوُقُوفُ عَنْ التَّعْلِيلِ هُوَ الْأَصْلَ إلَّا إذَا قَامَ دَلِيلٌ يُرَجِّحُ بَعْضَ الْأَوْصَافِ فَحِينَئِذٍ يَجُوزُ الِاشْتِغَالُ بِالتَّعْلِيلِ فَإِنَّ التَّرْجِيحَ بَعْدَ الْمُعَارَضَةِ إنَّمَا يَثْبُتُ بِالدَّلِيلِ.

وَلِأَنَّ الْحُكْمَ ظَهَرَ عَقِيبَ كُلِّ الْأَوْصَافِ الَّتِي اشْتَمَلَ عَلَيْهَا النَّصُّ فَالتَّعْلِيلُ بِالْبَعْضِ تَخْصِيصٌ فَلَا يَثْبُتُ إلَّا بِدَلِيلٍ

وَحَاصِلُ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّ التَّعْلِيلَ لَا يَجُوزُ إلَّا فِيمَا يَثْبُتُ عِلَّتُهُ بِنَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ قَوْلُهُ: (وَاحْتَجَّ أَهْلُ الْمَقَالَةِ الثَّانِيَةِ) وَهُمْ الَّذِينَ قَالُوا: الْأَصْلُ فِي النُّصُوصِ التَّعْلِيلُ، وَأَنَّ التَّعْلِيلَ يَجُوزُ بِكُلِّ وَصْفٍ يُمْكِنُ

وَبِأَنَّ الشَّرْعَ أَيْ الشَّارِعَ لَمَّا جَعَلَ الْقِيَاسَ حُجَّةً بِمَا مَرَّ ذِكْرُهُ مِنْ الدَّلَائِلِ، وَلَا يَتَأَتَّى الْقِيَاسُ إلَّا بِالْوُقُوفِ عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي صَلَحَ عِلَّةً مِنْ النَّصِّ كَانَ جَوَازُ التَّعْلِيلِ أَصْلًا فِي كُلِّ نَصٍّ؛ لِأَنَّ تِلْكَ الدَّلَائِلَ لَمْ تَفْصِلْ بَيْنَ نَصٍّ وَنَصٍّ

وَلَمَّا صَارَ التَّعْلِيلُ أَصْلًا وَلَا يُمْكِنُ التَّعْلِيلُ بِجَمِيعِ الْأَوْصَافِ لِتَأَدِّيهِ إلَى انْسِدَادِ بَابِ الْقِيَاسِ، وَلَا بِوَاحِدٍ مِنْهَا لِلْجَهَالَةِ وَفَسَادِ تَرْجِيحِ الشَّيْءِ بِلَا مُرَجِّحٍ صَارَتْ الْأَوْصَافُ كُلُّهَا صَالِحَةً أَيْ صَارَ كُلُّ وَصْفٍ صَالِحًا لِلتَّعْلِيلِ بِهِ فَكَانَتْ صَلَاحِيَةُ التَّعْلِيلِ

<<  <  ج: ص:  >  >>