للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي بَيْعِ الطَّعَامِ: إنَّ التَّقَابُضَ شَرْطٌ، وَقُلْنَا جَمِيعًا فِيمَنْ اشْتَرَى حِنْطَةً بِعَيْنِهَا بِشَعِيرٍ بِغَيْرِ عَيْنِهِ حَالًّا غَيْرَ مُؤَجَّلٍ إنَّهُ بَاطِلٌ، وَإِنْ كَانَ مَوْصُوفًا لِمَا قُلْنَا، وَوَجَبَ تَعْيِينُ رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ بِالْإِجْمَاعِ، وَإِذَا ثَبَتَ التَّعَدِّي فِي ذَلِكَ ثَبَتَ أَنَّهُ مَعْلُولٌ فَلَا تَعَدِّيَ بِلَا تَعْلِيلٍ بِالْإِجْمَاعِ فَقَدْ صَحَّ التَّعَدِّي وَلَمْ يَكُنْ الثَّمَنِيَّةُ مَانِعَةً، وَإِذَا ثَبَتَ فِيهِ ثَبَتَ فِي مَسْأَلَتِنَا؛ لِأَنَّهُ هُوَ بِعَيْنِهِ بَلْ رِبَا الْفَضْلِ أَثْبَتُ مِنْهُ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إنَّ تَحْرِيمَ الْخَمْرِ مَعْلُولٌ فَلَا بُدَّ مِنْ إقَامَةِ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ، وَلَا دَلِيلَ عَلَيْهِ مِنْ قِبَلِ النَّصِّ بَلْ الدَّلِيلُ دَلَّ عَلَى خِلَافِهِ، فَإِنَّ النَّصَّ أَوْجَبَ تَحْرِيمَ الْخَمْرِ لِعَيْنِهَا، وَلَيْسَتْ حُرْمَةُ سَائِرِ الْأَشْرِبَةِ وَنَجَاسَتُهَا مِنْ بَابِ التَّعَدِّي لَكِنَّهُ ثَبَتَ بِدَلِيلٍ فِيهِ شُبْهَةٌ احْتِيَاطًا

وَمِثَالُ هَذَا الشَّاهِدِ لَمَّا قُبِلَتْ شَهَادَتُهُ مَعَ صِفَةِ الْجَهْلِ بِحُدُودِ الشَّرْعِ بَطَلَ الطَّعْنُ بِالْجَهْلِ وَصُحِّحَ الطَّعْنُ بِالرِّقِّ فَكَذَلِكَ هَا هُنَا مَتَى وَجَدْنَا النَّصَّ شَاهِدًا مَعَ مَا ذَكَرَ مِنْ الطَّعْنِ بَطَلَ الطَّعْنُ، وَمَتَى وَقَعَ الطَّعْنُ فِي الشَّاهِدِ بِمَا هُوَ جُرْحٌ وَهُوَ الرِّقُّ لَمْ يَجُزْ الْحُكْمُ بِظَاهِرِ الْحُرِّيَّةِ إلَّا بِحُجَّةٍ فَكَذَلِكَ هُنَا لَا يَصِحُّ الْعَمَلُ بِهِ مَعَ الِاحْتِمَالِ إلَّا بِالْحُجَّةِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

ــ

[كشف الأسرار]

عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ حَقِيقَةُ الْفَضْلِ وَرِبَا النَّسِيئَةِ شُبْهَةُ الْفَضْلِ، وَالْحَقِيقَةُ أَوْلَى بِالثُّبُوتِ مِنْ الشُّبْهَةِ.

١ -

فَإِنْ قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ وُجُودَ التَّعَدِّي فِي هَذَا الْحُكْمِ؛ لِأَنَّ مَعْنَى التَّعَدِّي أَنْ يُوجَدَ الْحُكْمُ فِي الْفَرْعِ الَّذِي لَا نَصَّ فِيهِ بِنَاءً عَلَى عِلَّةٍ جَامِعَةٍ بَيْنَ الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ، وَالتَّعْيِينُ فِيمَا ذَكَرْتُمْ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ لَا بِالْعِلَّةِ فَإِنَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَالَ فِي كُلٍّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ بِجِنْسِهِ «يَدًا بِيَدٍ قَبْضًا بِقَبْضٍ ثُمَّ قَالَ: وَإِذَا اخْتَلَفَ النَّوْعَانِ فَبِيعُوا كَيْفَ شِئْتُمْ» بَعْدَ أَنْ يَكُونَ يَدًا بِيَدٍ فَيَجِبُ الْقَبْضُ الْمُعَيَّنُ عِنْدَ اتِّفَاقِ الْجِنْسِ وَاخْتِلَافِهِ بِهَذَا النَّصِّ فِي رَأْسِ مَالِ السَّلَمِ «بِنَهْيِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَنْ الْكَالِئِ بِالْكَالِئِ» فَكَانَ الْقَبْضُ الْمُعَيَّنُ وَاجِبًا فِي هَذَا الْمَسَائِلِ بِالنَّصِّ لَا بِالتَّعْلِيلِ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَثْبُتْ كَوْنُ هَذَا النَّصِّ مَعْلُولًا يُوَضِّحُهُ أَنَّ مِنْ شَرْطِ صِحَّةِ التَّعْلِيلِ عَدَمَ النَّصِّ فِي الْفُرُوعِ فَمَعَ وُجُودِ هَذِهِ النُّصُوصِ فِيمَا ذَكَرْتُمْ مِنْ الْفُرُوعِ كَيْفَ يُمْكِنُ الْقَوْلُ بِتَعَدِّي الْحُكْمِ مِنْ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ إلَيْهَا

قُلْنَا: وُجُودُ النَّصِّ فِي الْفَرْعِ لَا يَمْنَعُ صِحَّةَ التَّعَدِّي مِنْ مَحَلٍّ آخَرَ إلَيْهِ بِالتَّعْلِيلِ إذَا كَانَ التَّعْلِيلُ مُوَافِقًا لِلنَّصِّ عِنْدَ الْبَعْضِ، وَإِنَّمَا يَمْنَعُ إذَا كَانَ عَلَى خِلَافِ النَّصِّ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْفُقَهَاءَ عَنْ آخِرِهِمْ يَقُولُونَ: هَذَا الْحُكْمُ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ، وَالْمَعْقُولُ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ لَوْلَا النَّصُّ لَكَانَ الْحُكْمُ ثَابِتًا بِالْقِيَاسِ، وَلَمْ يَكُنْ مَعْدُولًا بِهِ عَنْ الْقِيَاسِ، فَإِذَا وُجِدَ النَّصُّ كَانَ الْقِيَاسُ مُؤَكِّدًا لَهُ، وَكَانَ النَّصُّ مُقَرِّرًا لِلْقِيَاسِ، وَيَتَعَاضَدُ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِالْآخَرِ كَمَا إذَا وُجِدَ نَصَّانِ مِنْ الْكِتَابِ أَوْ مِنْ السُّنَّةِ أَوْ مِنْهُمَا جَمِيعًا فَثَبَتَ أَنَّ وُجُودَ النَّصِّ فِي الْفَرْعِ لَا يَقْدَحُ فِيمَا ذَكَرْنَا بَلْ مُؤَكِّدٌ كَوْنَ الْأَصْلِ الْمَقِيسِ عَلَيْهِ مَعْلُولًا

قَوْلُهُ: (قَالَ الشَّافِعِيُّ) عَلَّلَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - تَحْرِيمَ الْخَمْرِ بِوَصْفِ الْإِسْكَارِ.

وَقَالَ: هَذَا وَصْفٌ مُؤَثِّرٌ؛ لِأَنَّ الْمَنْعَ مِنْ شُرْبِ مَا يَسْتُرُ الْعَقْلَ الَّذِي صَارَ بِهِ الْإِنْسَانُ أَهْلًا لِلْخِطَابِ وَالتَّكْلِيفِ وَيَجْعَلُهُ كَالزَّائِلِ، أَمْرٌ مَعْقُولٌ وَلِهَذَا لَمْ يَشْرَبْهَا نَبِيٌّ قَطُّ وَلَمْ يَشْرَبْهَا كَثِيرٌ مِنْ الصَّحَابَةِ قَبْلَ التَّحْرِيمِ فَيُلْحَقُ سَائِرُ الْأَشْرِبَةِ الْمُسْكِرَةِ بِهَا بِعِلَّةِ الْإِسْكَارِ فَيَحْرُمُ قَلِيلُهَا وَكَثِيرُهَا، وَيَجِبُ الْحَدُّ بِشُرْبِ الْقَلِيلِ مِنْهَا كَالْخَمْرِ فَقَالَ الشَّيْخُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَا بُدَّ مِنْ إقَامَةِ الدَّلِيلِ أَوَّلًا عَلَى كَوْنِ النَّصِّ الْمُحَرِّمِ لَهَا مَعْلُولًا لِيَصِحَّ تَعْلِيلُهُ بَعْدُ، وَلَا دَلِيلَ عَلَيْهِ مِنْ قِبَلِ النَّصِّ بَلْ الدَّلِيلُ مِنْ النَّصِّ دَالٌّ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ مَعْلُولٍ، فَإِنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - حَرَّمَ الْخَمْرَ لِعَيْنِهَا قَلِيلَهَا وَكَثِيرَهَا، وَالسُّكْرَ مِنْ كُلِّ شَرَابٍ» فَلَوْ كَانَتْ الْحُرْمَةُ مُتَعَلِّقَةً بِالسُّكْرِ لَمْ يَثْبُتْ فِي الْقَلِيلِ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ بَعْضُ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ

وَقَوْلُهُ: لَيْسَتْ حُرْمَةُ سَائِرِ الْأَشْرِبَةِ وَنَجَاسَتِهَا جَوَابٌ عَمَّا يُقَالُ: قَدْ تَعَدَّى حُكْمُ الْحُرْمَةِ حُكْمَ النَّجَاسَةِ مِنْ الْخَمْرِ إلَى بَعْضِ الْأَشْرِبَةِ الْمُسْكِرَةِ مِثْلَ الْمَطْبُوخِ أَدْنَى طَبْخَةٍ إذَا اشْتَدَّ وَالنِّيءِ مِنْ نَبِيذِ الزَّبِيبِ وَالتَّمْرِ إذَا اشْتَدَّ كَمَا تَعَدَّى حُكْمُ التَّعْيِينِ فِي الْمِثَالِ الْمَذْكُورِ إلَى الْفُرُوعِ فَثَبَتَ بِهِ أَنَّ النَّصَّ الْمُحَرِّمَ لِلْخَمْرِ مَعْلُولٌ؛ إذْ لَا تَعَدِّيَ بِلَا تَعْلِيلٍ فَقَالَ: لَيْسَتْ حُرْمَةُ سَائِرِ الْأَشْرِبَةِ أَيْ بَاقِي الْأَشْرِبَةِ الْمُحَرَّمَةِ وَنَجَاسَتِهَا مِنْ بَابِ التَّعَدِّي أَلَا تَرَى أَنَّهُمَا لَمْ يَثْبُتَا عَلَى الْوَصْفِ الَّذِي ثَبَتَا فِي الْخَمْرِ حَتَّى يَكْفُرَ مُسْتَحِلُّ الْخَمْرِ وَلَا يَكْفُرَ مُسْتَحِلُّ سَائِرِ الْأَشْرِبَةِ وَنَجَاسَةُ الْخَمْرِ غَلِيظَةٌ لَا يُعْفَى عَنْهَا أَكْثَرَ مِنْ قَدْرِ الدِّرْهَمِ، وَنَجَاسَةُ سَائِرِ الْأَشْرِبَةِ الْمُحَرَّمَةِ خَفِيفَةٌ يُعْفَى عَنْهَا مَا دُونَ رُبُعِ الثَّوْبِ.

كَذَا لَا يَجُوزُ بَيْعُ الْخَمْرِ بِالْإِجْمَاعِ وَيَجُوزُ بَيْعُ سَائِرِ الْأَشْرِبَةِ الْمُحَرَّمَةِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ

<<  <  ج: ص:  >  >>