للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مِثَالُ الْأَوَّلِ أَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - شَرَطَ الْعَدَدَ فِي عَامَّةِ الشَّهَادَاتِ، وَثَبَتَ بِالنَّصِّ قَبُولُ شَهَادَةِ خُزَيْمَةَ وَحْدَهُ لَكِنَّهُ ثَبَتَ كَرَامَةً لَهُ فَلَمْ يَصِحَّ إبْطَالُهُ بِالتَّعْلِيلِ وَحَلَّ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تِسْعُ نِسْوَةٍ إكْرَامًا لَهُ فَلَمْ يَصِحَّ تَعْلِيلُهُ

ــ

[كشف الأسرار]

قُلْنَا: الْمُرَادُ مِنْ التَّغَيُّرِ أَنْ يَتَغَيَّرَ بِالتَّعْلِيلِ مَا كَانَ مَفْهُومًا فِيهِ لُغَةً قَبْلَهُ مِثْلَ اشْتِرَاطِ التَّمْلِيكِ فِي طَعَامِ الْكَفَّارَةِ بِالرَّأْيِ كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنَّهُ يَلْزَمُ مِنْهُ تَغْيِيرُ النَّصِّ الْوَارِدِ فِيهِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ} [المائدة: ٨٩] إذْ الْإِطْعَامُ لُغَةً جَعْلُ الْغَيْرِ طَاعِمًا وَيَحْصُلُ الْخُرُوجُ عَنْ عُهْدَتِهِ بِالْإِجَابَةِ بِاشْتِرَاطِ التَّمْلِيكِ بِتَغَيُّرِ هَذَا الْحُكْمِ وَلَا يَحْصُلُ الْخُرُوجُ عَنْ الْعُهْدَةِ إلَّا بِالتَّمْلِيكِ فَأَمَّا تَعْلِيلُ نَصِّ الرِّبَا أَوْ تَعْدِيَةُ حُكْمِهِ إلَى سَائِرِ الْمَكِيلَاتِ وَالْمَوْزُونَاتِ فَلَا يُوجِبُ تَغْيِيرًا فِيهِ إذْ الْحُكْمُ فِي الْأَشْيَاءِ السِّتَّةِ بَعْدَ التَّعْلِيلِ بَقِيَ عَلَى مَا كَانَ قَبْلَهُ

قَوْلُهُ: (مِثَالُ الْأَوَّلِ) أَيْ نَظِيرُ الشَّرْطِ الْأَوَّلِ أَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - شَرَطَ الْعَدَدَ فِي عَامَّةِ الشَّهَادَاتِ أَيْ فِي جَمِيعِ الشَّهَادَاتِ الْمُطْلَقَةِ بِقَوْلِهِ عَزَّ ذِكْرُهُ {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: ٢٨٢] ، {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: ٢] {اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ} [المائدة: ١٠٦] {فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} [النساء: ١٥] وَيَثْبُتُ بِالنَّصِّ قَبُولُ شَهَادَةِ خُزَيْمَةَ وَحْدَهُ وَهُوَ مَا رُوِيَ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - اشْتَرَى نَاقَةً مِنْ أَعْرَابِيٍّ، وَأَوْفَاهُ ثَمَنَهَا ثُمَّ جَحَدَ اسْتِيفَاءً وَجَعَلَ يَقُولُ هَلُمَّ شَهِيدًا فَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - مَنْ يَشْهَدُ لِي فَقَالَ خُزَيْمَةُ بْنُ ثَابِتٍ: أَنَا أَشْهَدُ لَك يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّك أَوْفَيْتَ الْأَعْرَابِيَّ ثَمَنَ النَّاقَةِ فَقَالَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَيْفَ تَشْهَدُ لِي، وَلَمْ تَحْضُرْنَا فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنَّا نُصَدِّقُك فِيمَا تَأْتِينَا بِهِ مِنْ خَبَرِ السَّمَاءِ أَفَلَا نُصَدِّقُك فِيمَا تُخْبِرُهُ بِهِ مِنْ أَدَاءِ ثَمَنِ النَّاقَةِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَنْ شَهِدَ لَهُ خُزَيْمَةُ فَحَسْبُهُ» كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ.

وَرَوَى أَبُو دَاوُد سُلَيْمَانُ بْنُ الْأَشْعَثِ السِّجِسْتَانِيُّ فِي سُنَنِهِ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ابْتَاعَ فَرَسًا مِنْ أَعْرَابِيٍّ فَاسْتَتْبَعَهُ لِيَقْضِيَهُ ثَمَنَ فَرَسِهِ فَأَسْرَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - الْمَشْيَ وَأَبْطَأَ الْأَعْرَابِيُّ فَطَفِقَ رِجَالٌ يَعْتَرِضُونَ الْأَعْرَابِيَّ فَيُسَاوِمُونَهُ بِالْفَرَسِ لَا يَعْلَمُونَ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ابْتَاعَهُ حَتَّى زَادَ بَعْضُهُمْ الْأَعْرَابِيَّ فِي السَّوْمِ عَلَى ثَمَنِ الْفَرَسِ فَقَالَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنْ كُنْت مُبْتَاعًا هَذَا الْفَرَسَ فَابْتَعْهُ وَإِلَّا بِعْتُهُ فَقَالَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - حِينَ سَمِعَ مِنْ الْأَعْرَابِيِّ ذَلِكَ أَوَلَيْسَ قَدْ ابْتَعْتُهُ مِنْك فَقَالَ الْأَعْرَابِيُّ لَا وَاَللَّهِ مَا بِعْتُك فَقَالَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَلْ ابْتَعْتُهُ مِنْك فَطَفِقَ النَّاسُ يَلُوذُونَ بِالنَّبِيِّ وَالْأَعْرَابِيِّ وَهُمَا يَتَرَاجَعَانِ وَطَفِقَ الْأَعْرَابِيُّ يَقُولُ هَلُمَّ شَهِيدًا يَشْهَدُ أَنِّي قَدْ بَايَعْتُك فَمَنْ جَاءَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ قَالَ لِلْأَعْرَابِيِّ وَيْلَكَ إنَّ النَّبِيَّ لَمْ يَكُنْ لِيَقُولَ إلَّا حَقًّا حَتَّى جَاءَ خُزَيْمَةُ بْنُ ثَابِتٍ فَاسْتَمَعَ بِمُرَاجَعَتِهِمَا، وَطَفِقَ الْأَعْرَابِيُّ يَقُولُ: هَلُمَّ شَهِيدًا يَشْهَدُ أَنِّي قَدْ بَايَعْتُك فَقَالَ خُزَيْمَةُ أَنَا أَشْهَدُ أَنَّك قَدْ بَايَعْته فَأَقْبَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى خُزَيْمَةَ فَقَالَ بِمَ تَشْهَدُ قَالَ بِتَصْدِيقِك يَا رَسُولَ اللَّهِ فَجَعَلَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - شَهَادَةَ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ شَهَادَةَ رَجُلَيْنِ»

وَقَوْلُهُ لَكِنَّهُ تَثْبُتُ كَرَامَةً لَهُ إشَارَةٌ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَ تَخْصِيصِ الْعَامِّ وَبَيْنَ تَخْصِيصِ خُزَيْمَةَ بِقَوْلِ شَهَادَتِهِ وَحْدَهُ حَيْثُ يَجُوزُ تَعْلِيلُ الدَّلِيلِ الْمُخَصِّصِ فِي الْعَامِّ، وَلَا يَجُوزُ التَّعْلِيلُ هَا هُنَا؛ لِأَنَّ تَخْصِيصَ خُزَيْمَةَ تَثْبُتُ بِطَرِيقِ الْكَرَامَةِ، وَهِيَ تُوجِبُ انْقِطَاعَ شَرِكَةِ الْغَيْرِ فَتَعْلِيلُهُ لِإِلْحَاقِ غَيْرِهِ بِهِ سَوَاءٌ كَانَ مِثْلَهُ فِي الْفَضِيلَةِ أَوْ فَوْقَهُ أَوْ دُونَهُ يَتَضَمَّنُ إبْطَالَ الْحُكْمِ الثَّابِتِ بِالنَّصِّ فَيَكُونُ بَاطِلًا بِخِلَافِ تَخْصِيصِ الْعَامِّ فَإِنَّ تَعْلِيلَهُ لَا يُوجِبُ إبْطَالَ شَيْءٍ لِبَقَاءِ صِيغَةِ الْعُمُومِ وَالدَّلِيلِ الْمُخَصِّصِ عَلَى مَا كَانَا عَلَيْهِ قَبْلَهُ فَيَجُوزُ حَتَّى لَوْ أَدَّى إلَى إبْطَالِ الْعُمُومِ بِأَنْ لَمْ يَبْقَ بَعْدَ التَّعْلِيلِ إلَّا وَاحِدٌ أَوْ اثْنَانِ لَا يَجُوزُ أَيْضًا عَلَى مَا مَرَّ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ حِينَئِذٍ إبْطَالًا لِلنَّصِّ بِالْقِيَاسِ قَالَ شَيْخُنَا الْعَلَّامَةُ مَوْلَانَا حَافِظُ الْمِلَّةِ وَالدِّينِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إنَّمَا اُخْتُصَّ بِهَذِهِ الْكَرَامَةِ

<<  <  ج: ص:  >  >>