للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَأَمَّا الثَّالِثُ فَلِأَنَّ الْقِيَاسَ مُحَاذَاةٌ بَيْنَ شَيْئَيْنِ فَلَا يَنْفَعِلُ إلَّا فِي مَحَلِّهِ، وَهُوَ الْفَرْعُ وَالْأَصْلُ مَعًا، وَإِنَّمَا التَّعْلِيلُ لِإِقَامَةِ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ، وَفِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ خِلَافٌ، وَأَمَّا الرَّابِعُ فَلِمَا قُلْنَا: إنَّ الْقِيَاسَ لَا يُعَارِضُ النَّصَّ فَلَا يَتَغَيَّرُ بِهِ حُكْمُهُ

ــ

[كشف الأسرار]

وَالْكَفَّارَاتِ، وَجَمِيعُ التَّحَكُّمَاتِ الْمُبْتَدَأَةِ الَّتِي لَا يَعْقِلُ فِيهَا مَعْنًى وَثَالِثُهَا الْقَوَاعِدُ الْمُبْتَدَأَةُ الْعَدِيمَةُ النَّظِيرُ لَا يُقَاسُ عَلَيْهَا غَيْرُهَا مَعَ أَنَّهَا يُعْقَلُ مَعْنَاهَا؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ لَهَا نَظِيرٌ خَارِجُ مَا تَنَاوَلَهُ النَّصُّ وَالْإِجْمَاعُ، وَتَسْمِيَتُهُ خَارِجًا عَنْ الْقِيَاسِ تَجَوُّزٌ أَيْضًا، وَذَلِكَ كَرُخْصِ السَّفَرِ وَالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ وَرُخْصَةِ الْمُضْطَرِّ فِي أَكْلِ الْمَيْتَةِ فَإِنَّا نَعْلَمُ أَنَّ الْمَسْحَ عَلَى الْخُفِّ إنَّمَا جُوِّزَ لِعُسْرِ النَّزْعِ وَمَسِيسِ الْحَاجَةِ إلَى اسْتِصْحَابِهِ وَلَكِنْ لَا يَقِيسُ عَلَيْهِ الْعِمَامَةَ وَالْقُفَّازَيْنِ وَمَا لَا يَسْتُرُ جَمِيعَ الْقَدَمِ؛ لِأَنَّهَا لَا تُسَاوِي الْخُفَّ فِي الْحَاجَةِ وَعُسْرِ النَّزْعِ وَعُمُومِ الْوُقُوعِ وَكَذَلِكَ رُخْصَةُ السَّفَرِ لَا يُشَكُّ فِي ثُبُوتِهَا بِالْمَشَقَّةِ، وَلَكِنْ لَا يُقَاسُ عَلَيْهَا مَشَقَّةٌ أُخْرَى؛ لِأَنَّ غَيْرَهَا لَا يُشَارِكُهَا فِي جُمْلَةِ مَعَانِيهَا وَمَصَالِحِهَا، فَإِنَّ الْمَرَضَ لَا يُحْوِجُ إلَى قَصْرِ الذَّاتِ، وَإِنَّمَا يُحْوِجُ إلَى قَصْرِ الْحِلِّ بِالرَّدِّ مِنْ الْقِيَامِ إلَى الْقُعُودِ، وَمِنْ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ إلَى الْإِيمَاءِ، وَكَذَا إبَاحَةُ الْمَيْتَةِ لِلْمُضْطَرِّ لِلْحَاجَةِ بِلَا شَكٍّ وَلَكِنْ لَا يُقَاسُ غَيْرُهُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّ غَيْرَهُ لَيْسَ فِي مَعْنَاهُ فَهَذِهِ الْأَقْسَامُ لَا يَجْرِي فِيهَا الْقِيَاسُ بِالِاتِّفَاقِ

وَرَابِعُهَا مَا اُسْتُثْنِيَ عَنْ قَاعِدَةٍ سَابِقَةٍ تَطَرَّقَ إلَى اسْتِثْنَائِهِ مَعْنَى فَيَجُوزُ أَنْ يُقَاسَ عَلَيْهِ كُلُّ مَسْأَلَةٍ دَارَتْ بَيْنَ الْمُسْتَثْنَى وَالْمُسْتَبْقَى وَشَارَكَتْ الْمُسْتَثْنَى فِي عِلَّةِ الِاسْتِثْنَاءِ عِنْدَ عَامَّةِ الْأُصُولِيِّينَ خِلَافًا لِبَعْضِ أَصْحَابِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - كَمَا سَيَأْتِيك بَيَانُهُ فِي آخِرِ هَذَا الْفَصْلِ إنْ شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ.

فَتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ الْعُدُولِ بِهِ عَنْ الْقِيَاسِ هَا هُنَا أَنَّهُ لَا يُعْقَلُ مَعْنَاهُ أَصْلًا، وَيُخَالِفُ الْقِيَاسَ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ فَإِنَّهُ إذَا كَانَ مُوَافِقًا لَهُ مِنْ وَجْهٍ يَجُوزُ الْقِيَاسُ عَلَيْهِ

قَوْلُهُ: (وَأَمَّا الثَّالِثُ) أَيْ اشْتِرَاطُ الشَّرْطِ الثَّالِثِ فَلِأَنَّ الْقِيَاسَ أَيْ الْمُقَايَسَةَ مُحَاذَاةٌ أَيْ مُسَاوَاةٌ بَيْنَ شَيْئَيْنِ فَلَا يَنْفَعِلُ إلَّا فِي مَحَلِّهِ أَيْ مَحَلِّ الْقِيَاسِ يَعْنِي لَا يَثْبُتُ وُجُودُهُ إلَّا فِي مَحَلٍّ قَابِلٍ لَهُ؛ إذْ مَحَلُّ الِانْفِعَالِ شَرْطٌ فِي كُلِّ فِعْلٍ كَالْحَيَاةِ شَرْطٌ لِيَصِيرَ الصَّدْمُ ضَرْبًا، وَالْقَطْعُ قَتْلًا، وَالْمُحَازَاةُ لَا تُتَصَوَّرُ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَلَا فِي شَيْئَيْنِ لَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمَا نَظِيرًا لِلْآخَرِ، فَلَوْ لَمْ يَتَعَدَّ الْحُكْمُ إلَى فَرْعٍ بِالتَّعْلِيلِ كَانَ الْمَحَلُّ شَيْئًا وَاحِدًا فَلَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ الْمُقَايَسَةُ.

وَكَذَا إذَا لَمْ يَكُنْ الْفَرْعُ نَظِيرًا لِلْأَصْلِ، لِاسْتِحَالَةِ تَحَقُّقِ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْمُخْتَلِفَيْنِ؛ فَلِذَلِكَ شَرَطْنَا التَّعَدِّيَ مِنْ الْأَصْلِ إلَى فَرْعٍ هُوَ نَظِيرُهُ، وَإِنَّمَا التَّعْلِيلُ لِإِقَامَةِ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ أَيْ لِإِثْبَاتِهِ يَعْنِي إنَّمَا شَرَطْنَا أَنْ يَكُونَ الْحُكْمُ شَرْعِيًّا لَا لُغَوِيًّا؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي الْقِيَاسِ عَلَى أُصُولٍ ثَابِتَةٍ شَرْعًا فَلَا يُعْرَفُ بِالتَّأَمُّلِ فِيهَا إلَّا مَا كَانَ ثَابِتًا شَرْعًا فَإِنَّ الطِّبَّ أَوْ اللُّغَةَ لَا يُعْرَفُ بِالتَّأَمُّلِ فِي أُصُولِ الشَّرْعِ وَأَمَّا دَلِيلُ اشْتِرَاطِ تَعَدِّي الْحُكْمِ بِعَيْنِهِ وَخُلُوِّ الْفَرْعِ عَنْ النَّصِّ فَقَدْ دَخَلَ فِيمَا ذُكِرَ؛ لِأَنَّ الْمُحَاذَاةَ لَا يَتَحَقَّقُ مَعَ تَغْيِيرِ الْحُكْمِ كَذَا إذَا كَانَ فِي الْفَرْعِ نَصٌّ؛ لِأَنَّهُ يَمْنَعُ مِنْ ثُبُوتِ حُكْمٍ بِالْقِيَاسِ فِي الْفَرْعِ عَلَى خِلَافِهِ وَفِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ خِلَافٌ يَعْنِي فِي بَعْضِ مَا تَضَمَّنَهُ الشَّرْطُ الثَّالِثُ مِنْ الْقُيُودِ خِلَافٌ كَمَا سَيَقْرَعُ سَمْعَك بَيَانُهُ عَنْ قَرِيبٍ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى

قَوْلُهُ: (وَأَمَّا الشَّرْطُ الرَّابِعُ) أَيْ اشْتِرَاطُهُ فَلِمَا قُلْنَا أَيْ فِي دَلِيلِ الشَّرْطِ الْأَوَّلِ: إنَّ الْقِيَاسَ لَا يُعَارِضُ النَّصَّ عَلَى وَجْهٍ يَدْفَعُ حُكْمَ النَّصِّ وَيُغَيِّرُهُ فَلَوْ لَمْ يَبْقَ حُكْمُ النَّصِّ بَعْدَ التَّعْلِيلِ فِي الْمَنْصُوصِ عَلَى مَا كَانَ قَبْلَهُ كَانَ هَذَا قِيَاسًا مُغَيِّرًا لِحُكْمِ النَّصِّ فَيَكُونُ بَاطِلًا (فَإِنْ قِيلَ) : تَغْيِيرُ حُكْمِ الْأَصْلِ مِنْ لَوَازِمِ الْقِيَاسِ، فَإِنَّ حُكْمَ النَّصِّ بِالتَّعْلِيلِ مِنْ الْخُصُوصِ إلَى الْعُمُومِ، وَالْعُمُومُ غَيْرُ الْخُصُوصِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ أَنَّى يَسْتَقِيمُ أَنْ يُجْعَلَ بَقَاؤُهُ عَلَى مَا كَانَ قَبْلَهُ مِنْ شَرَائِطِ الْقِيَاسِ، وَفِيهِ سَدُّ بَابِ الْقِيَاسِ

<<  <  ج: ص:  >  >>