وَأَمَّا الشَّرْطُ الرَّابِعُ وَهُوَ أَنْ يَبْقَى حُكْمُ النَّصِّ عَلَى مَا كَانَ قَبْلَ التَّعْلِيلِ فَلِأَنَّ تَغْيِيرَ حُكْمِ النَّصِّ فِي نَفْسِهِ بِالرَّأْيِ بَاطِلٌ كَمَا أَبْطَلْنَاهُ فِي الْفُرُوعِ وَذَلِكَ مِثْلُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي طَعَامِ الْكَفَّارَةِ بِشَرْطِ التَّمْلِيكِ: إنَّهُ تَغْيِيرٌ لِحُكْمِ النَّصِّ بِعَيْنِهِ؛ لِأَنَّ الْإِطْعَامَ اسْمٌ لِفِعْلٍ يُسَمَّى لَازِمُهُ طَعْمًا، وَهُوَ الْأَكْلُ عَلَى مَا قُلْنَا، وَمِثْلُ قَوْلِهِ فِي حَدِّ الْقَذْفِ: إنَّهُ لَا يُبْطِلُ الشَّهَادَةَ، وَهَذَا تَغْيِيرٌ؛ لِأَنَّ النَّصَّ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الْقَذْفِ إبْطَالَ الشَّهَادَةِ حَدًّا، وَقَدْ أَبْطَلَهُ فَجَعَلَ بَعْضَ الْحَدِّ حَدًّا؛ لِأَنَّ الْوَقْتَ مِنْ الْأَبَدِ بَعْضُهُ، وَأَثْبَتَ الرَّدَّ بِنَفْسِ الْقَذْفِ دُونَ مُدَّةِ الْعَجْزِ، وَهُوَ تَغْيِيرٌ وَزَادَ النَّفْيَ عَلَى الْجَلْدِ، وَهُوَ تَغْيِيرٌ وَجَعَلَ الْفِسْقَ مُبْطِلًا لِلشَّهَادَةِ وَالْوِلَايَةِ، وَهُوَ تَغْيِيرٌ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الْفِسْقِ بِالنَّصِّ التَّثَبُّتُ وَالتَّوَقُّفُ دُونَ الْإِبْطَالِ، وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ
ــ
[كشف الأسرار]
بِالْإِبْطَالِ.
قَوْلُهُ: (وَأَمَّا الشَّرْطُ الرَّابِعُ) أَيْ اشْتِرَاطُ الشَّرْطِ الرَّابِعِ، وَهُوَ أَنْ يَبْقَى حُكْمُ النَّصِّ أَيْ النَّصِّ الْمُعَلَّلِ عَلَى مَا كَانَ قَبْلَ التَّعْلِيلِ فَلِأَنَّ تَغْيِيرَ حُكْمِ النَّصِّ فِي نَفْسِهِ أَيْ فِي ذَاتِهِ بِالرَّأْيِ بَاطِلٌ سَوَاءٌ حَصَلَ التَّغْيِيرُ لِحُكْمِ نَصٍّ فِي الْأَصْلِ أَيْ الْمَقِيسِ عَلَيْهِ أَوْ حَصَلَ التَّغْيِيرُ لِحُكْمِ نَصٍّ فِي الْفَرْعِ كَالْأَمْثِلَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي قَوْلِهِ: وَلَا نَصَّ فِيهِ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ كَمَا أَبْطَلْنَاهُ فِي الْفُرُوعِ وَالضَّمِيرُ فِي نَفْسِهِ وَأَبْطَلْنَاهُ رَاجِعٌ إلَى التَّغْيِيرِ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أَنَّ تَغْيِيرَ حُكْمِ النَّصِّ الْمُعَلَّلِ فِي نَفْسِهِ بَاطِلٌ بِالرَّأْيِ كَمَا أَنَّ تَغْيِيرَ حُكْمِ نَصِّ الْأَصْلِ فِي الْفَرْعِ بَاطِلٌ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي ظِهَارِ الذِّمِّيِّ وَالسَّلَمِ الْحَالِّ وَجَرَيَانِ الرِّبَا فِيمَا لَا مِعْيَارَ لَهُ.
وَذَلِكَ أَيْ تَغْيِيرُ حُكْمِ الْأَصْلِ فِيمَا قَالَهُ الشَّافِعِيُّ عَلَى مَا قُلْنَا أَيْ فِي بَابِ الْوَقْفِ عَلَى أَحْكَامِ النَّظْمِ أَوْ فِي بَيَانِ الشَّرْطِ الثَّالِثِ وَمِثْلُ قَوْلِهِ أَيْ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي حَدِّ الْقَذْفِ أَنَّهُ لَا يُبْطِلُ الشَّهَادَةَ حَتَّى لَوْ تَابَ كَانَ مَقْبُولَ الشَّهَادَةِ؛ لِأَنَّهُ مَحْدُودٌ فِي كَبِيرَةٍ فَتُقْبَلُ شَهَادَتُهُ بَعْدَ التَّوْبَةِ قِيَاسًا عَلَى الْمَحْدُودِ وَفِي سَائِرِ الْجَرَائِمِ كَالزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَهَذَا أَيْ قَوْلُهُ: إنَّ حَدَّ الْقَذْفِ لَا يُبْطِلُ الشَّهَادَةَ تَغْيِيرٌ لِحُكْمِ النَّصِّ؛ لِأَنَّ النَّصَّ الْوَارِدَ فِي حَدِّ الْقَذْفِ يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الْقَذْفِ إبْطَالَ الشَّهَادَةِ عَلَى سَبِيلِ التَّأْبِيدِ حَدًّا؛ وَلِهَذَا فُوِّضَ إلَى الْأَئِمَّةِ، وَهُوَ يَصْلُحُ حَدًّا؛ لِأَنَّهُ إيلَامٌ مَعْنَوِيٌّ بِإِخْرَاجِ شَهَادَتِهِ مِنْ الِاعْتِبَارِ كَالْجَلْدِ يَصْلُحُ حَدًّا؛ لِأَنَّهُ إيلَامٌ ظَاهِرًا وَقَدْ أَبْطَلَهُ أَيْ أَبْطَلَ الشَّافِعِيُّ هَذَا الْحُكْمَ فَجَعَلَ بَعْضَ الْحَدِّ حَدًّا؛ لِأَنَّ الْوَقْتَ مِنْ الْأَبَدِ بَعْضُهُ يَعْنِي أَنَّهُ لَمْ يَقْبَلْ شَهَادَتَهُ قَبْلَ التَّوْبَةِ، وَقَبِلَهَا بَعْدَ التَّوْبَةِ، وَالنَّصُّ يَقْتَضِي رَدَّ شَهَادَتِهِ فِي كِلَا الْحَالَيْنِ، فَيَكُونُ اقْتِصَارُ عَدَمِ الْقَبُولِ عَلَى مَا قَبْلَ التَّوْبَةِ جَعْلَ بَعْضَ الْحَدِّ حَدًّا؛ لِأَنَّ الْوَقْتَ أَيْ الْوَقْتَ الْمُعَيَّنَ، وَهُوَ الزَّمَانُ الَّذِي قَبْلَ التَّوْبَةِ مِنْ الْأَبَدِ بَعْضُهُ فَيَكُونُ هَذَا تَغْيِيرًا لِمُوجِبِ النَّصِّ وَهَذَا الْكَلَامُ إنَّمَا يَسْتَقِيمُ إذَا جَعَلَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - رَدَّ الشَّهَادَةِ قَبْلَ التَّوْبَةِ بِطَرِيقِ الْحَدِّ، وَلَيْسَ مِنْ مَذْهَبِهِ ذَلِكَ بَلْ الشَّهَادَةُ مَرْدُودَةٌ عِنْدَهُ قَبْلَ التَّوْبَةِ لِلْفِسْقِ.
فَالْأَوْلَى مَا قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إنَّ الْقَاذِفَ سَاقِطُ الشَّهَادَةِ بِالنَّصِّ أَبَدًا عَلَى وَجْهٍ يَكُونُ ذَلِكَ مُتَمِّمًا لِحَدِّهِ، وَبَعْدَهُ التَّعْلِيلُ يَتَغَيَّرُ هَذَا الْحُكْمُ، فَإِنَّ الْجَلْدَ قَبْلَ هَذَا التَّعْلِيلِ كَانَ بَعْضَ الْحَدِّ فِي حَقِّهِ، وَبَعْدَهُ يَكُونُ تَمَامُ الْحَدِّ فَيَكُونُ تَغْيِيرًا عَلَى نَحْوِ مَا قُلْنَا فِي التَّغْرِيبِ: إنَّ الْجَلْدَ إذَا لَمْ يُضَمَّ إلَيْهِ التَّغْرِيبُ يَكُونُ حَدًّا كَامِلًا وَإِذَا ضُمَّ إلَيْهِ يَكُونُ بَعْضَ الْحَدِّ وَأَثْبَتَ الرَّدَّ بِنَفْسِ الْقَذْفِ يَعْنِي أَثْبَتَ الشَّافِعِيُّ رَدَّ شَهَادَةِ الْقَاذِفِ بِنَفْسِ الْقَذْفِ بِدُونِ اعْتِبَارِ مُدَّةِ الْعَجْزِ عَنْ الْإِتْيَانِ بِالشُّهُودِ حَتَّى لَوْ شَهِدَ قَبْلَ تَحَقُّقِ الْعَجْزِ لَا تُقْبَلُ شَهَادَتُهُ اعْتِبَارًا بِسَائِرِ الْجَرَائِمِ لِلشَّهَادَةِ كَالزِّنَا وَشُرْبِ الْخَمْرِ وَنَحْوِهِمَا، فَإِنَّهُ إذَا ارْتَكَبَ كَبِيرَةً يَصِيرُ سَاقِطَ الشَّهَادَةِ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى مُضِيِّ زَمَانٍ وَهُوَ تَغْيِيرٌ أَيْ إثْبَاتُ الرَّدِّ بِنَفْسِ الْقَذْفِ تَغْيِيرٌ لِمُوجِبِ النَّصِّ فَإِنَّهُ - تَعَالَى - قَالَ {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا} [النور: ٤] رَتَّبَ الرَّدَّ عَلَى الْقَذْفِ وَعَدَمِ الْإِتْيَانِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ كَمَا رَتَّبَ الْجَلْدَ عَلَيْهِمَا، وَالْعَجْزُ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِمُضِيِّ مُدَّةٍ فَإِثْبَاتُ الرَّدِّ بِدُونِ مُدَّةِ الْعَجْزِ يَكُونُ تَغْيِيرًا لِمُوجِبِ النَّصِّ كَإِثْبَاتِ الْجَلْدِ بِدُونِ اعْتِبَارِ الْعَجْزِ، وَزَادَ النَّفْيَ عَلَى الْجَلْدِ فِي زِنَا الْبِكْرِ بِعِلَّةِ أَنَّهُ صَالِحٌ لِلْمَنْعِ مِنْ الزِّنَا كَالْجَلْدِ، وَهُوَ تَغْيِيرٌ؛ لِأَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - جَعَلَ الْجَلْدَ كُلَّ الْحَدِّ بِقَوْلِهِ {فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: ٢] ؛ إذْ الْفَاءُ تَدْخُلُ عَلَى الْأَجْزِئَةِ، وَالْجَزَاءُ اسْمٌ لِلْكَافِي فَمَتَى زِيدَ عَلَيْهِ النَّفْيُ لَا يَكُونُ بِنَفْسِهِ كَافِيًا فَيَكُونُ تَغْيِيرًا لِلنَّصِّ ثُمَّ إنَّهُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute