للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَاحْتَجُّوا بِأَنَّ صِيغَةَ الْأَمْرِ اُسْتُعْلِمَتْ فِي مَعَانٍ مُخْتَلِفَةٍ لِلْإِيجَابِ مِثْلَ قَوْله تَعَالَى {أَقِيمُوا الصَّلاةَ} [الأنعام: ٧٢] وَلِلنَّدْبِ مِثْلَ قَوْلِهِ {وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} [الجمعة: ١٠] وَلِلْإِبَاحَةِ مِثْلَ قَوْلِهِ {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: ٢] وَلِلتَّقْرِيعِ مِثْلَ قَوْله تَعَالَى {وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ} [الإسراء: ٦٤] وَلِلتَّوْبِيخِ مِثْلَ قَوْله تَعَالَى {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: ٢٩] وَإِذَا اخْتَلَفَتْ وُجُوهُهُ لَمْ يَجِبْ الْعَمَلُ بِهِ إلَّا بِدَلِيلٍ

ــ

[كشف الأسرار]

بِالْمَعْنَوِيِّ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ حَقِيقَةً فِي الْإِذْنِ الشَّامِلِ لِلثَّلَاثَةِ، وَهُوَ مَذْهَبُ الْمُرْتَضَى مِنْ الشِّيعَةِ فَعَلَى هَذَيْنِ الْقَوْلَيْنِ يَكُونُ فِي التَّهْدِيدِ مَجَازًا.

وَقِيلَ هُوَ مُشْتَرَكٌ فِي الْإِيجَابِ وَالنَّدْبِ لَفْظًا، وَهُوَ مَنْقُولٌ عَنْ الشَّافِعِيِّ، وَقِيلَ مَعْنًى بِأَنْ يُجْعَلَ حَقِيقَةً فِي مَعْنَى الطَّلَبِ الشَّامِلِ لَهُمَا، وَهُوَ تَرْجِيحُ الْفِعْلِ عَلَى التَّرْكِ، وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ الْأَشْعَرِيِّ: فِي رِوَايَةٍ وَالْقَاضِي الْبَاقِلَّانِيُّ وَالْغَزَالِيِّ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ لَا يُدْرَى أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الْوُجُوبِ فَقَطْ أَوْ فِي النَّدْبِ فَقَطْ أَوْ فِيهِمَا مَعًا بِالِاشْتِرَاكِ فَعَلَى قَوْلِ هَؤُلَاءِ جَمِيعًا لَا حُكْمَ لَهُ أَصْلًا بِدُونِ الْقَرِينَةِ إلَّا التَّوَقُّفُ مَعَ اعْتِقَادِ أَنَّ مَا أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ حَقٌّ؛ لِأَنَّهُ مُحْتَمِلٌ لِازْدِحَامِ الْمَعَانِي فِيهِ وَحُكْمُ الْمُجْمَلِ التَّوَقُّفُ لَا أَنَّ التَّوَقُّفَ عِنْدَ الْبَعْضِ فِي نَفْسِ الْمُوجِبِ وَعِنْدَ الْبَعْضِ فِي تَعْيِينِهِ، وَقَالَ مَشَايِخُ سَمَرْقَنْدَ: رَئِيسُهُمْ الشَّيْخُ أَبُو مَنْصُورٍ - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - إنَّ حُكْمَهُ الْوُجُوبُ عَمَلًا لَا اعْتِقَادًا، وَهُوَ أَنْ لَا يَعْتَقِدَ فِيهِ بِنَدْبٍ وَلَا إيجَابٍ بِطَرِيقِ التَّعْيِينِ بَلْ يَعْتَقِدُ عَلَى الْإِبْهَامِ أَنَّ مَا أَرَادَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْهُ مِنْ الْإِيجَابِ وَالنَّدْبِ فَهُوَ حَقٌّ وَلَكِنْ يُؤْتَى بِالْفِعْلِ لَا مَحَالَةَ حَتَّى إنَّهُ إذَا أُرِيدَ بِهِ الْإِيجَابُ يَحْصُلُ الْخُرُوجُ عَنْ الْعُهْدَةِ؛ وَإِنْ أُرِيدَ بِهِ النَّدْبُ يَحْصُلُ الثَّوَابُ فَهَذَا بَيَانُ أَقْوَالِ الْوَاقِفِيَّةِ، فَأَمَّا عَامَّةُ الْعُلَمَاءِ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ فَقَالُوا: إنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْمَعَانِي عَيْنًا مِنْ غَيْرِ اشْتِرَاكٍ وَلَا إجْمَالٍ إلَّا أَنَّهُمْ اخْتَلَفُوا فِي تَعْيِينِهِ فَذَهَبَ الْجُمْهُورُ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَجَمَاعَةٍ مِنْ الْمُعْتَزِلَةِ كَأَبِي الْحُسَيْنِ الْبَصْرِيِّ وَالْجُبَّائِيِّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ إلَى أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الْوُجُوبِ مَجَازٌ فِيمَا عَدَاهُ، وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ وَعَامَّةُ الْمُعْتَزِلَةِ إلَى أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي النَّدْبِ مَجَازٌ فِيمَا سِوَاهُ، وَذَهَبَ طَائِفَةٌ إلَى أَنَّهُ حَقِيقَةٌ فِي الْإِبَاحَةِ وَنُقِلَ ذَلِكَ عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِ مَالِكٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -.

قَوْلُهُ (وَاحْتَجُّوا) أَيْ الطَّائِفَةُ الْأُولَى مِنْ الْوَاقِفِيَّةِ بِأَنَّ صِيغَةَ الْأَمْرِ اُسْتُعْمِلَتْ فِي مَعَانٍ مُخْتَلِفَةٍ، وَهِيَ مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَثْبُتَ تَرْجِيحُ أَحَدِهَا عَلَى الْبَاقِي وَالْأَصْلُ فِي الِاسْتِعْمَالِ الْحَقِيقَةُ فَيَثْبُتُ الِاشْتِرَاكُ الَّذِي هُوَ مِنْ أَقْسَامِ الْإِجْمَالِ عِنْدَهُمْ فَلَا يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ إلَّا بِدَلِيلٍ زَائِدٍ يُرَجِّحُ أَحَدَ الْمَعَانِي عَلَى سَائِرِهَا لِاسْتِحَالَةِ تَرْجِيحِ أَحَدِ الْمُتَسَاوِيَيْنِ بِلَا مُرَجِّحٍ، وَالتَّقْرِيعُ التَّعْجِيزُ وَالْإِفْحَامُ وَالتَّوْبِيخُ التَّهْدِيدُ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا أَنَّ فِي التَّقْرِيعِ لَا يَكُونُ الْمَأْمُورُ قَادِرًا عَلَى إتْيَانِ الْمَأْمُورِ بِهِ؛ وَلِهَذَا يُلْحَقُ بِهِ افْعَلْ كَذَا إنْ اسْتَطَعْت كَقَوْلِهِ تَعَالَى {فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [البقرة: ٢٣] {فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} [البقرة: ٢٥٨] وَالْمُرَادُ مِنْهُ النَّفْيُ أَيْ الْإِتْيَانُ بِالسُّورَةِ أَوْ الشَّمْسِ مِنْ الْمَغْرِبِ لَيْسَ بِمَوْجُودٍ وَمَقْدُورٍ أَصْلًا وَفِي التَّوْبِيخِ يَكُونُ الْمَأْمُورُ قَادِرًا عَلَى إتْيَانِ الْمَأْمُورِ بِهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف: ٢٩] {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} [فصلت: ٤٠] فَإِنَّ الْمَأْمُورَ قَادِرٌ عَلَى الْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ جَمِيعًا إلَّا أَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ فِي التَّوْبِيخِ لَيْسَ بِمَطْلُوبٍ بَلْ الْمُرَادُ النَّهْيُ مِنْهُ أَيْ لَا تَفْعَلْ هَذَا فَإِنَّك إنْ فَعَلْته سَتَلْحَقُ بِك عُقُوبَتُهُ وَلِهَذَا يَلْحَقُ بِهِ افْعَلْ فَإِنَّك تَسْتَحِقُّ بِهِ الْعِقَابَ،

ثُمَّ قَوْله تَعَالَى {وَاسْتَفْزِزْ} [الإسراء: ٦٤] أَيْ اسْتَخِفَّ وَاسْتَزِلَّ وَهَيِّجْ مَنْ اسْتَطَعْت مِنْهُمْ عَلَى الْمَعَاصِي بِوَسْوَسَتِك وَدُعَائِك إلَى الشَّرِّ مِنْ قَبِيلِ التَّهْدِيدِ لَا مِنْ قَبِيلِ التَّقْرِيعِ الَّذِي ذَكَرَهُ الشَّيْخُ كَذَا فِي الْكَشَّافِ وَالْمَطْلَعِ وَعَيْنِ الْمَعَانِي وَعَامَّةِ التَّفَاسِيرِ وَالتَّقْوِيمِ وَأُصُولِ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ

<<  <  ج: ص:  >  >>