للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَهَذَا النَّظْمُ - وَاَللَّهُ أَعْلَمُ - لِأَنَّ الْوُضُوءَ مُطَهِّرٌ فَدَلَّ عَلَى قِيَامِ النَّجَاسَةِ فَاسْتَغْنَى عَنْ ذِكْرِهِ بِخِلَافِ التَّيَمُّمِ، وَالْوُضُوءُ مُتَعَلِّقٌ بِالصَّلَاةِ وَالْحَدَثُ شَرْطُهُ. فَلَمْ يَذْكُرْ الْحَدَثَ لِيَعْلَمَ أَنَّهُ سُنَّةٌ وَفَرْضٌ فَكَانَ الْحَدَثُ شَرْطٌ لِكَوْنِهِ فَرْضًا لَا لِكَوْنِهِ سُنَّةً فَأَمَّا الْغُسْلُ فَلَا يُسَنُّ لِكُلِّ صَلَاةٍ بَلْ هُوَ فَرْضٌ خَالِصٌ فَلَمْ يُشْرَعْ إلَّا مَقْرُونًا بِالْحَدِيثِ وَكَذَلِكَ الْغَضَبُ مَعْلُولٌ بِشُغْلِ الْقَلْبِ وَقَطُّ لَا يُوجَدُ الْغَضَبُ بِلَا شُغْلٍ وَلَا يَحِلُّ الْقَضَاءُ إلَّا بَعْدَ سُكُونِهِ، وَإِنَّمَا التَّعْلِيلُ لِلتَّعْدِيَةِ.

ــ

[كشف الأسرار]

بِالرَّأْيِ فَإِنَّهَا تَجْرِي مَجْرَى النَّسْخِ فَهَذَا يُشِيرُ إلَى أَنَّ الْوَجْهَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ مِنْ بَابِ الدَّلَالَةِ.

وَإِلَيْهِ يُشِيرُ تَقْرِيرُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ أَيْضًا قَوْلُهُ (وَهَذَا النَّظْمُ) أَيْ اُخْتِيرَ هَذَا النَّظْمُ، وَهُوَ أَنَّ الْحَدَثَ لَمْ يُذْكَرْ فِي الْوُضُوءِ الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ وَذُكِرَ فِي الْبَدَلِ، وَهُوَ التَّيَمُّمُ لِأَنَّ الْوُضُوءَ مُطَهِّرٌ بِنَفْسِهِ وَحَقِيقَتِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى {وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ} [المائدة: ٦] فَدَلَّ كَوْنُهُ مُطَهِّرًا عَلَى قِيَامِ النَّجَاسَةِ؛ لِأَنَّ الْمُطَهِّرَ مَا يُثْبِتُ الطَّهَارَةَ وَيَقْتَضِي ذَلِكَ ثُبُوتُ النَّجَاسَةِ لِيَصِحَّ إثْبَاتُ الطَّهَارَةِ فَإِنَّ إثْبَاتَ الثَّابِتِ مُسْتَحِيلٌ فَاسْتَغْنَى عَنْ ذِكْرِ الْحَدَثِ بِخِلَافِ التَّيَمُّمِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمُطَهِّرٍ بِنَفْسِهِ بَلْ هُوَ تَلْوِيثٌ حَقِيقَةً فَلَمْ يَدُلَّ ذِكْرُهُ عَلَى قِيَامِ نَجَاسَةٍ فَلَوْ لَمْ يُذْكَرْ الْحَدَثُ فِيهِ صَرِيحًا لَتُوُهِّمَ أَنَّ الْحَدَثَ لَيْسَ بِشَرْطٍ فِيهِ بَلْ يَجِبُ التَّيَمُّمُ لِكُلِّ صَلَاةٍ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ تَعَبُّدًا وَيَلْزَمُ عَلَى هَذَا التَّقْرِيرِ أَنَّ الْحَدَثَ قَدْ ذُكِرَ فِي الْغُسْلِ بِقَوْلِهِ {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: ٦] مَعَ أَنَّهُ تَطْهِيرٌ حَقِيقَةً كَالْوُضُوءِ فَأَشَارَ إلَى الْفَرْقِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْوُضُوءِ فَقَالَ، وَالْوُضُوءُ مُتَعَلِّقٌ بِالصَّلَاةِ أَيْ شَرْعُهُ لِأَجْلِ الصَّلَاةِ وَسَبَبُ وُجُوبِهِ إرَادَةُ الصَّلَاةِ.

وَالْحَدَثُ شَرْطُهُ أَيْ شَرْطُ وُجُوبِهِ عُرِفَ ذَلِكَ بِذِكْرِهِ فِي الْبَدَلِ كَمَا بَيَّنَّا فَلَمْ يَذْكُرْ الْحَدَثَ فِي الْوُضُوءِ صَرِيحًا لِيُعْلَمَ بِظَاهِرِ النَّصِّ أَنَّ الْوُضُوءَ مَشْرُوعٌ لِكُلِّ صَلَاةٍ إمَّا بِطَرِيقِ الْفَرْضِ أَوْ النَّدْبِ فَإِذَا كَانَ مُحْدِثًا كَانَ الْأَمْرُ فِي حَقِّهِ لِلْإِيجَابِ فَيَكُونُ الْوُضُوءُ فَرْضًا وَإِذَا لَمْ يَكُنْ مُحْدِثًا كَانَ الْأَمْرُ فِي حَقِّهِ لِلنَّدَبِ فَيَكُونُ الْوُضُوءُ سُنَّةً عِنْدَ إرَادَةِ الصَّلَاةِ فَأَمَّا الْغُسْلُ فَلَيْسَ بِمَسْنُونٍ لِكُلِّ صَلَاةٍ بَلْ هُوَ فَرْضٌ خَالِصٌ أَيْ الْغُسْلُ الَّذِي تَعَلَّقَ بِهِ الصَّلَاةُ نَوْعٌ وَاحِدٌ، وَهُوَ الْفَرْضُ فَلَمْ يُشْرَعْ إلَّا مَقْرُونًا بِالْحَدَثِ بِقَوْلِهِ عَزَّ اسْمُهُ {وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا} [المائدة: ٦] وَلَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ غُسْلُ الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ؛ لِأَنَّ الْمُدَّعَى أَنَّ الْغُسْلَ لِكُلِّ صَلَاةٍ لَيْسَ بِمَسْنُونٍ وَبِشَرْعِيَّةِ الْغُسْلِ لِلْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ لَا يَثْبُتُ كَوْنُ الْغُسْلِ سُنَّةً لِكُلِّ صَلَاةٍ عَلَى أَنَّ كَلَامَنَا فِيمَا ثَبَتَ بِالْكِتَابِ وَبِإِشَارَتِهِ وَذَلِكَ ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ.

وَذَكَرَ فِي الْكَشَّافِ فَإِنْ قُلْت ظَاهِرُ الْآيَةِ يُوجِبُ الْوُضُوءَ عَلَى كُلِّ قَائِمٍ إلَى الصَّلَاةِ مُحْدِثٍ وَغَيْرِ مُحْدِثٍ فَمَا وَجْهُهُ؟ قُلْت يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ لِلْوُجُوبِ فَيَكُونُ الْخِطَابُ لِلْمُحْدِثِينَ خَاصَّةً وَأَنْ يَكُونَ لِلنَّدَبِ وَعَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْخُلَفَاءِ بَعْدَهُ أَنَّهُمْ كَانُوا يَتَوَضَّئُونَ لِكُلِّ صَلَاةٍ فَإِنْ قُلْت هَلْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْأَمْرُ شَامِلًا لِلْمُحْدِثِينَ وَغَيْرِهِمْ، لِهَؤُلَاءِ عَلَى وَجْهِ الْإِيجَابِ وَلِهَؤُلَاءِ عَلَى وَجْهِ النَّدْبِ؟ قُلْت لَا؛ لِأَنَّ تَنَاوُلَ الْكَلِمَةِ لِمَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ مِنْ بَابِ الْإِلْغَازِ وَالتَّعْمِيَةِ وَقِيلَ كَانَ الْوُضُوءُ لِكُلِّ صَلَاةٍ أَوَّلَ مَا فُرِضَ ثُمَّ نُسِخَ قَوْلُهُ وَكَذَلِكَ الْغَضَبُ أَيْ وَكَمَا أَنَّ الْحَدَثَ ثَابِتٌ بِدَلَالَةِ النَّصِّ لَا بِالرَّأْيِ الْغَضَبُ مَعْلُولٌ بِشُغْلِ الْقَلْبِ أَيْ الْمُرَادُ مِنْهُ شُغْلُ الْقَلْبِ لِأَنَّ الْغَضَبَ سَبَبُهُ وَقَدْ يُسَمَّى الشَّيْءُ بِاسْمِ سَبَبِهِ كَذَا ذَكَرَ الشَّيْخُ فِي بَعْضِ مُصَنَّفَاتِهِ وَقَطُّ لَا يُوجَدُ غَضَبٌ بِلَا شُغْلٍ فَلَا يَسْتَقِيمُ قَوْلُ الْخَصْمِ النَّصُّ قَائِمٌ وَلَا حُكْمَ لَهُ لِإِبَاحَةِ الْقَضَاءِ مَعَ وُجُودِ الْغَضَبِ عِنْدَ فَرَاغِ الْقَلْبِ؛ لِأَنَّا لَا نُسَلِّمُ ذَلِكَ بَلْ لَا يَحِلُّ الْقَضَاءُ إلَّا عِنْدَ سُكُونِ الْغَضَبِ وَإِنْ قَلَّ؛ لِأَنَّهُ لَا يَخْلُو عَنْ شُغْلٍ أَلْبَتَّةَ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الْحُكْمَ فِي جَمِيعِ الْمَوَاضِعِ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ لَا بِالْعِلَّةِ مَعَ قِيَامِ النَّصِّ وَلَا حُكْمَ لَهُ قَالَ الْقَاضِي الْإِمَامُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَكَذَلِكَ قَوْلُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «لَا يَقْضِي الْقَاضِي

<<  <  ج: ص:  >  >>