وَقُلْنَا فِي الشِّقْصِ: إذَا بَاعَ مِنْ الدَّارِ فَطَلَبَ الشَّرِيكُ الشُّفْعَةَ فَأَنْكَرَ الْمُشْتَرِي مِلْكَ الطَّالِبِ فِيمَا يَدُهُ أَنَّ الْقَوْلَ قَوْلُهُ فَلَا تَجِبُ الشُّفْعَةُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَجِبُ بِغَيْرِ بَيِّنَةٍ وَكَذَلِكَ رَجُلٌ قَالَ لِعَبْدِهِ: إنْ لَمْ تَدْخُلْ الدَّارَ الْيَوْمَ فَأَنْتَ حُرٌّ فَمَضَى الْيَوْمُ ثُمَّ اخْتَلَفَا وَلَا يَدْرِي أَدَخَلَ أَمْ لَا فَإِنَّ الْقَوْلَ قَوْلُ الْمَوْلَى عِنْدَنَا لِمَا ذَكَرْنَا وَاحْتَجَّ بِأَنَّ الْحُكْمَ إذَا ثَبَتَ بِدَلِيلِهِ بَقِيَ بِذَلِكَ الدَّلِيلِ أَيْضًا، أَلَا يَرَى أَنَّ حُكْمَ النَّصِّ يَبْقَى بِهِ بَعْدَ وَفَاةِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى تَعَذَّرَ نَسْخُهُ وَاحْتَجَّ بِإِجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّ مَنْ تَيَقَّنَ بِالْوُضُوءِ لَمْ يَلْزَمْهُ وُضُوءٌ آخَرُ وَلَزِمَهُ أَدَاءُ الصَّلَاةِ بِمَا عَلِمَهُ وَإِنْ شَكَّ فِي الْحَدَثِ وَإِذَا عَلِمَ بِالْحَدَثِ، ثُمَّ شَكَّ فِي الْوُضُوءِ يَبْقَى الْحَدَثُ وَلَوْ ثَبَتَ مِلْكُ الشَّفِيعِ بِإِقْرَارِ الْمُشْتَرِي أَنَّهُ كَانَ لَهُ وَأَنَّهُ اشْتَرَاهُ مِنْ فُلَانٍ وَفُلَانٌ كَانَ يَمْلِكُهُ وَجَبَتْ الشُّفْعَةُ وَإِنَّمَا يَبْقَى مِلْكُهُ لِعَدَمِ مَا يُزِيلُهُ، وَمَعَ ذَلِكَ قَدْ صَلُحَ حُجَّةً مُوجِبَةً وَكَذَلِكَ لَوْ شَهِدَ شُهُودُ الْمُدَّعِي أَنَّ هَذَا الشَّيْءَ كَانَ مِلْكًا لَهُ صَارَ حُجَّةً مُوجِبَةً
ــ
[كشف الأسرار]
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الشُّفْعَةَ يَعْنِي إنْ أَقَامَ بَيِّنَةَ مِلْكِهِ وَأَنَّ يَدَهُ يَدُ مِلْكٍ؛ لِأَنَّ التَّمَسُّكَ بِالْأَصْلِ يَصْلُحُ حُجَّةً لِلدَّفْعِ وَالْإِلْزَامِ جَمِيعًا عِنْدَهُ.
وَإِنَّمَا وَضَعَ الْمَسْأَلَةَ فِي الشِّقْصِ احْتِرَازًا عَنْ مَوْضِعِ الْخِلَافِ فَإِنَّ الشُّفْعَةَ بِالْجَوَازِ لَيْسَتْ بِثَابِتَةٍ عِنْدَهُ وَالشِّقْصُ الْجُزْءُ مِنْ الشَّيْءِ وَالنَّصِيبُ، وَمِنْهَا مَسْأَلَةُ تَعْلِيقِ عِتْقِ الْعَبْدِ فَإِنَّهُ إذَا قَالَ لِعَبْدِهِ إنْ لَمْ تَدْخُلْ الدَّارَ الْيَوْمَ فَأَنْتَ حُرٌّ، ثُمَّ اخْتَلَفَ بَعْدَ مُضِيِّ الْيَوْمِ فَقَالَ الْمَوْلَى: قَدْ دَخَلْت وَقَالَ الْعَبْدُ: لَمْ أَدْخُلْ كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَ الْمَوْلَى عِنْدَنَا حَتَّى لَا يُعْتَقُ الْعَبْدُ؛ لِأَنَّ الْعَبْدَ مُتَمَسِّكٌ بِالْأَصْلِ، وَهُوَ عَدَمُ الْوُجُودِ وَالتَّمَسُّكُ بِهِ لَا يَصْلُحُ حُجَّةً لِلْإِلْزَامِ عَلَى الْغَيْرِ فَلَا يَبْطُلُ بِهِ إنْكَارُ الْمَوْلَى عَدَمَ الدُّخُولِ فَيَجْعَلُ كَأَنَّ الْعَبْدَ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ عَلَى ذَلِكَ فَيُعْتَقُ وَيَكُونُ الْقَوْلُ قَوْلَهُ لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الِاسْتِصْحَابَ حُجَّةٌ دَافِعَةٌ لَا مُلْزِمَةٌ، ثُمَّ اسْتَدَلَّ مَنْ جَعَلَهُ حُجَّةً عَلَى الْإِطْلَاقِ بِالنَّصِّ، وَهُوَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - «إنَّ الشَّيْطَانَ يَأْتِي أَحَدَكُمْ فَيَقُولُ أَحْدَثْت أَحْدَثْت فَلَا يَنْصَرِفَنَّ حَتَّى يَسْمَعَ صَوْتًا، أَوْ يَجِدَ رِيحًا» حَكَمَ بِاسْتِدَامَةِ الْوُضُوءِ عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ، وَهُوَ عَيْنُ الِاسْتِصْحَابِ وَبِالْإِجْمَاعِ وَهُوَ أَنَّهُ إذَا تَيَقَّنَ بِالْوُضُوءِ، ثُمَّ شَكَّ فِي الْحَدَثِ جَازَ لَهُ أَدَاءُ الصَّلَاةِ وَلَمْ يَكُنْ الْوُضُوءُ وَلَوْ تَيَقَّنَ بِالْحَدَثِ، ثُمَّ شَكَّ فِي الْوُضُوءِ يَبْقَى الْحَدَثُ وَكَذَا إذَا تَيَقَّنَ بِالنِّكَاحِ، ثُمَّ شَكَّ فِي الطَّلَاقِ لَا يَزُولُ النِّكَاحُ بِمَا حَدَثَ مِنْ الشَّكِّ وَهَذَا كُلُّهُ اسْتِصْحَابٌ.
وَبِالدَّلِيلِ الْمَعْقُولِ، وَهُوَ أَنَّ الْحُكْمَ إذَا ثَبَتَ بِدَلِيلٍ وَلَمْ يَثْبُتْ لَهُ مُعَارِضٌ قَطْعًا وَلَا ظَنًّا يَبْقَى بِذَلِكَ الدَّلِيلِ أَيْضًا، أَلَا تَرَى أَنَّ الْحُكْمَ الثَّابِتَ بِالنَّصِّ يَبْقَى بِهِ أَيْ بِذَلِكَ بِالنَّصِّ بَعْدَ وَفَاةِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَتَّى تَعَذَّرَ نَسْخُهُ أَيْ نَسْخُ ذَلِكَ الْحُكْمِ لِبَقَاءِ النَّصِّ الْمُوجِبِ لَهُ وَبَعْدَ وَفَاتِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَاسْتَدَلَّ صَاحِبُ الْمِيزَانِ لِلشَّيْخِ أَبِي مَنْصُورٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ بِأَنَّ الْحُكْمَ حَتَّى ثَبَتَ شَرْعًا فَالظَّاهِرُ دَوَامُهُ لِمَا تَعَلَّقَ بِهِ مِنْ الْمَصَالِحِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ، وَلَا يَتَغَيَّرُ الْمَصْلَحَةُ فِي زَمَانٍ قَرِيبٍ، وَإِنَّمَا تَحْتَمِلُ التَّغَيُّرَ عِنْدَ تَقَادُمِ الْعَهْدِ فَمَتَى طَلَبَ الْمُجْتَهِدُ الدَّلِيلَ الْمُزِيلَ وَلَمْ يَظْفَرْ بِهِ فَالظَّاهِرُ عَدَمُهُ وَهَذَا نَوْعُ اجْتِهَادٍ، وَإِذَا كَانَ الْبَقَاءُ ثَابِتًا بِالِاجْتِهَادِ لَا يُتْرَكُ بِاجْتِهَادٍ مِثْلِهِ بِلَا تَرْجِيحٍ وَيَكُونُ حُجَّةً عَلَى الْخَصْمِ كَمَنْ تَعَلَّقَ بِقِيَاسٍ صَحِيحٍ فَأَنْكَرَ خَصْمُهُ وَعَارَضَهُ بِقِيَاسٍ لَا رُجْحَانَ لَهُ عَلَى الْأَوَّلِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمُنْكِرُ مَحْجُوجًا بِهِ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ حُكْمٌ قَدْ ثَبَتَ بَقَاؤُهُ بِالِاجْتِهَادِ فَلَا يَزُولُ إلَّا بِدَلِيلٍ يَتَرَجَّحُ عَلَى الْأَوَّلِ وَإِنْ كَانَ أَوْجَبَ شُبْهَةً فِي الْأَوَّلِ وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِ الْفُقَهَاءِ أَنَّ مَا أَمْضَى بِالِاجْتِهَادِ لَا يَنْتَقِضُ بِاجْتِهَادِ مِثْلِهِ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْحُكْمَ الْمُطْلَقَ فِي حَالِ حَيَاةِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - كَانَ مُحْتَمِلًا لِلنَّسْخِ ثُمَّ هُوَ ثَابِتٌ فِي حَقِّ مِنْ كَانَ بَعِيدًا عَنْهُ فِي حَقِّ وُجُوبِ الْعَمَلِ بِهِ وَالْإِلْزَامِ عَلَى الْغَيْرِ وَدَعْوَةِ النَّاسِ فِي ذَلِكَ فَعَرَفْنَا أَنَّ الِاسْتِصْحَابَ حُجَّةٌ مُلْزِمَةٌ كَذَا فِي الْمِيزَانِ وَتَمَسَّكَ مَنْ لَمْ يَجْعَلْهُ حُجَّةً أَصْلًا بِالْمُسْتَصْحِبِ لَيْسَ لَهُ دَلِيلٌ عَقْلِيٌّ وَلَا شَرْعِيٌّ عَلَى ثُبُوتِ الْحُكْمِ فِي مَوْضِعِ الْخِلَافِ فَإِنَّ الْعَقْلَ لَا يَدُلُّ عَلَى تَغَايُرِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ بَعْدَ ثُبُوتِهِ.
وَكَذَا دَلَائِلُ الشَّرْعِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَالْإِجْمَاعُ وَالْقِيَاسُ وَلَمْ يَدُلَّ شَيْءٌ مِنْهَا بَقَاءُ الْحُكْمِ بَعْدَ الثُّبُوتِ فَكَانَ الْعَمَلُ بِالِاسْتِصْحَابِ عَمَلًا بِلَا دَلِيلٍ وَكَيْفَ يُجْعَلُ حُجَّةً لِإِبْقَاءِ مَا كَانَ عَلَى مَا كَانَ وَالْبَقَاءُ لَا يُضَافُ إلَى الدَّلِيلِ الْمُوجِبِ بَلْ حُكْمُهُ الثُّبُوتُ لَا غَيْرَ وَلِأَنَّ التَّمَسُّكَ بِالِاسْتِصْحَابِ يُؤَدِّي إلَى التَّعَارُضِ فِي الْأَدِلَّةِ فَإِنَّ مَنْ اسْتَصْحَبَ حُكْمًا مِنْ صِحَّةِ فِعْلِ لَهُ وَسُقُوطِ فَرْضٍ كَانَ لِخَصْمِهِ أَنْ يَسْتَصْحِبَ خِلَافَهُ فِي مُقَابَلَتِهِ كَمَا لَوْ قِيلَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute