للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَلَنَا أَنَّ الدَّلِيلَ الْمُوجِبَ لِحُكْمٍ لَا يُوجِبُ بَقَاءَهُ كَالْإِيجَادِ لَا يُوجِبُ الْبَقَاءَ حَتَّى صَحَّ الْإِفْنَاءُ.

وَهَذَا؛ لِأَنَّ ذَلِكَ بِمَنْزِلَةِ أَعْرَاضٍ تَحْدُثُ فَلَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ وُجُودُ شَيْءٍ عِلَّةً لِوُجُودِ غَيْرِهِ

ــ

[كشف الأسرار]

إنَّ الْمُتَيَمِّمَ إذَا رَأَى الْمَاءَ قَبْلَ صَلَاتِهِ وَجَبَ عَلَيْهِ التَّوَضُّؤُ فَكَذَلِكَ إذَا رَآهُ بَعْدَ دُخُولِهِ فِي الصَّلَاةِ بِاسْتِصْحَابِ ذَلِكَ الْوُجُوبِ أَمْكَنَ أَنْ يُعَارَضَ بِأَنَّ الْإِجْمَاعَ قَدْ انْعَقَدَ عَلَى صِحَّةِ شُرُوعِهِ فِي الصَّلَاةِ وَانْعِقَادِ الْإِحْرَامِ وَقَدْ وَقَعَ الِاشْتِبَاهُ فِي بَقَائِهِ بَعْدَ رُؤْيَةِ الْمَاءِ فِي الصَّلَاةِ فَيَحْكُمُ بِبَقَائِهِ بِطَرِيقِ الِاسْتِصْحَابِ وَمَا ادَّعَى إلَى مِثْلِ هَذَا كَانَ بَاطِلًا.

وَلَنَا أَنَّ الدَّلِيلَ الْمُوجِبَ أَيْ الْمُثْبِتَ لِحُكْمٍ فِي الشَّرْعِ لَا يُوجِبُ بَقَاءَهُ؛ لِأَنَّ حُكْمَهُ الْإِثْبَاتُ وَالْبَقَاءُ غَيْرُ الثُّبُوتِ فَلَا يَثْبُتُ بِهِ الْبَقَاءُ كَالْإِيجَادِ لَا يُوجِبُ الْبَقَاءَ؛ لِأَنَّ حُكْمَهُ الْوُجُودُ لَا غَيْرَ يَعْنِي لَمَّا كَانَ الْإِيجَادُ عِلَّةً لِلْوُجُودِ لَا لِلْبَقَاءِ لَمْ يَثْبُتْ بِهِ الْبَقَاءُ حَتَّى صَحَّ الْإِفْنَاءُ بَعْدَ الْإِيجَادِ وَلَوْ كَانَ الْإِيجَادُ مُوجِبًا لِلْبَقَاءِ كَمَا كَانَ مُوجِبًا لِلْوُجُوبِ لَمَا تَصَوَّرَ الْإِفْنَاءَ بَعْدَ الْإِيجَادِ لِاسْتِحَالَةِ الْفَنَاءِ مَعَ الْمُبْقِي كَمَا لَمْ يُتَصَوَّرْ الزَّوَالُ حَالَةَ الثُّبُوتِ لِاسْتِحَالَةِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْوُجُودِ وَالْعَدَمِ وَلَمَّا صَحَّ الْإِفْنَاءُ عُلِمَ أَنَّ الْإِيجَادَ لَا يُوجِبُ الْبَقَاءَ فَكَذَا الْحُكْمُ لَمَّا احْتَمَلَ النَّسْخَ بَعْدَ الثُّبُوتِ عُلِمَ أَنَّ دَلِيلَهُ لَا يُوجِبُ الْبَقَاءَ لِاسْتِحَالَةِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمُزِيلِ وَالْمُثْبِتِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمَّا كَانَ مُوجِبًا لَمْ يَجُزْ نَسْخُ الْحُكْمِ فِي حَالِ ثُبُوتِهِ لِأَنَّ رَفْعَ الشَّيْءِ فِي حَالِ ثُبُوتِهِ مُحَالٌ.

وَهَذَا أَيْ مَا قُلْنَا إنَّ الدَّلِيلَ الْمُوجِبَ لِشَيْءٍ لَا يُوجِبُ بَقَاءَهُ ثَابِتٌ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَيْ الْبَقَاءَ، وَيُعَبَّرُ بِهِ عَنْ الْكَوْنِ فِي الزَّمَانِ الثَّانِي بَعْدَ الْكَوْنِ فِي الزَّمَانِ الْأَوَّلِ بِمَنْزِلَةِ أَعْرَاضٍ تَحْدُثُ فَإِنَّ الْبَقَاءَ مَعْنًى وَرَاءَ الْبَاقِي بِدَلِيلِ أَنَّ الشَّيْءَ فِي أَوَّلِ أَحْوَالِهِ يُوصَفُ بِالْوُجُودِ وَلَا يُوصَفُ بِالْبَقَاءِ فَإِنَّهُ صَحَّ أَنْ يُقَالَ وُجِدَ وَلَمْ يَبْقَ فَلَوْ كَانَ بَقَاؤُهُ نَفْسَ وُجُودِهِ لَمَّا انْفَكَّ وُجُودُهُ عَنْ الْبَقَاءِ فِي الزَّمَانِ الْأَوَّلِ وَلَصَحَّ اتِّصَافُهُ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ بِالْبَقَاءِ.

وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُ مَعْنًى آخَرُ وَرَاءَ الْوُجُودِ وَلَا قِيَامًا لَهُ بِنَفْسِهِ حَقِيقَةً كَسَائِرِ الصِّفَاتِ كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْأَعْرَاضِ الَّتِي تَحْدُثُ فِي الشَّيْءِ بَعْدَ وُجُودِهِ مِنْ الْبَيَاضِ وَالسَّوَادِ وَالْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ فَلَمْ يَصْلُحْ أَنْ يَكُونَ وُجُودُ شَيْءٍ عِلَّةً لِوُجُودِ غَيْرِهِ أَيْ لَمْ يَصْلُحْ أَنْ يَكُونَ نَفْسُ وُجُودِ شَيْءٍ مِنْ غَيْرِ انْضِمَامِ دَلِيلٍ آخَرَ إلَيْهِ عِلَّةً لِوُجُودِ غَيْرِهِ مِنْ الْأَعْرَاضِ الَّتِي تَقُومُ بِهِ فَلَا يَصْلُحُ نَفْسُ وُجُودِ الْحُكْمِ عِلَّةً لِبَقَائِهِ الَّذِي هُوَ غَيْرُهُ بِمَنْزِلَةِ الْعَرَضِ الْقَائِمِ بِهِ فَثَبَتَ أَنَّ الدَّلِيلَ الْمُوجِبَ لِلْحُكْمِ لَا يُوجِبُ بَقَاءً فَلَا يَكُونُ الْبَقَاءُ ثَابِتًا بِدَلِيلٍ بَلْ بِنَاءً عَلَى عَدَمِ الْعِلْمِ بِالدَّلِيلِ الْمُزِيلِ مَعَ الِاحْتِمَالِ وُجُودُهُ فَلَا يَصْلُحُ حُجَّةً عَلَى الْغَيْرِ لَكِنَّهُ لَمَّا بَذَلَ جَهْدَهُ فِي طَلَبِ الْمُزِيلِ وَلَمْ يَظْفَرْ بِهِ جَازَ لَهُ الْعَمَلُ بِهِ إذْ لَيْسَ فِي وُسْعِهِ وَرَاءَ ذَلِكَ جَازَ لَهُ الْعَمَلُ بِالتَّحَرِّي عِنْدَ الِاشْتِبَاهِ وَرَأَيْت بِخَطِّ شَيْخِي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - اسْتِصْحَابُ حُكْمٍ ثَبَتَ بِدَلِيلِهِ فِي الزَّمَانِ الثَّانِي لَمْ يَكُنْ قَوْلًا بِدَلِيلٍ؛ لِأَنَّ الْمُوجِبَ لِلْوُجُودِ، أَوْ الْعَدَمِ أَوْجَبَ الْبَقَاءَ.

وَالْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ مِمَّا يُوصَفُ بِالْبَقَاءِ عَدَمِيًّا كَانَ أَوْ وُجُودِيًّا فَيَبْقَى مَوْصُوفًا بِالْوَصْفِ الَّذِي ثَبَتَ بِدَلِيلِهِ إلَى أَنْ يُوجَدَ الْمُغَيِّرُ بِخِلَافِ الْأَعْرَاضِ الَّتِي لَا تُوصَفُ بِالْبَقَاءِ؛ لِأَنَّهَا لَا تَسْتَغْنِي عَنْ الْعِلَّةِ فِي كُلِّ سَاعَةٍ وَلَحْظَةٍ لِحُدُوثِهَا جُزْءًا فَجُزْءًا فَيَحْتَاجُ إلَى عِلَّةٍ حَسَبَ حَاجَةِ الْأَوَّلِ إلَيْهَا.

فَالشَّيْخُ تَعَرَّضَ لِإِبْطَالِ هَذَا الْكَلَامِ وَقَالَ الْبَقَاءُ بِمَنْزِلَةِ أَعْرَاضٍ تَحْدُثُ بِالتَّرَادُفِ وَالتَّوَالِي فَلَا يُسْتَغْنَى عَنْ الدَّلِيلِ وَقَدْ وَقَعَ الشَّكُّ فِي الدَّلِيلِ الْمُبْقِي فَلَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَى الْغَيْرِ مَعَ الشَّكِّ (فَإِنْ قِيلَ) لَمَّا كَانَ الْبَقَاءُ أَمْرًا حَادِثًا سِوَى الثُّبُوتِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ دَلِيلٍ وَسَبَبٍ كَالثُّبُوتِ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ سَبَبٍ فَلَا يَسْتَقِيمُ أَنْ يُقَالَ الْبَقَاءُ ثَابِتٌ بِلَا دَلِيلٍ، أَوْ يُضَافُ إلَى عَدَمِ الْمُزِيلِ؟ (قُلْنَا) بَقَاءُ الْمَوْجُودِ فِي الْحَقِيقَةِ ثَابِتٌ بِإِبْقَاءِ اللَّهِ تَعَالَى إيَّاهُ إلَى زَمَانِ وُجُودِ الْمُزِيلِ كَمَا أَنَّ الْوُجُودَ ثَابِتٌ بِإِيجَادِهِ إلَّا أَنَّ لِلْوُجُودِ سَبَبًا ظَاهِرًا يُضَافُ إلَيْهِ، وَلَيْسَ لِلْبَقَاءِ سَبَبٌ ظَاهِرٌ فَقِيلَ الْبَقَاءُ ثَابِتٌ بِلَا دَلِيلٍ عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ فِي الظَّاهِرِ إلَى سَبَبٍ

<<  <  ج: ص:  >  >>