للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أَلَا يَرَى أَنَّ عَدَمَ الْمِلْكِ لَا يَمْنَعُ الْمِلْكَ وَعَدَمَ الشِّرَاءِ لَا يَمْنَعُ حُدُوثَ الشِّرَاءِ وَوُجُودَ الْمِلْكِ لَا يَمْنَعُ الزَّوَالَ، وَهَذَا لَا يَشْكُلُ، أَلَا يَرَى أَنَّ النَّسْخَ فِي دَلَائِلِ الشَّرْعِ إنَّمَا صَحَّ لِمَا ذَكَرْنَا وَلَمَّا صَارَتْ الدَّلَائِلُ مُوجِبَةً قَطْعًا بِوَفَاةِ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - عَلَى تَقْرِيرِهَا لَمْ تَحْتَمِلْ النَّسْخَ لِبَقَائِهَا بِدَلِيلٍ مُوجِبٍ وَأَمَّا فَصْلُ الطَّهَارَةِ وَالْمِلْكِ بِالشِّرَاءِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ فَلَا يُشْبِهُ هَذَا الْبَابَ وَذَلِكَ مِنْ جِنْسِ مَا يَفِي بِدَلِيلِهِ، لِأَنَّ حُكْمَ الشِّرَاءِ الْمِلْكُ الْمُؤَبَّدُ وَكَذَلِكَ حُكْمُ الْوُضُوءِ وَالْحَدَثِ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَصِحُّ تَوْقِيتُهُ صَرِيحًا لَكِنَّهُ يَحْتَمِلُ السُّقُوطَ بِالْمُعَارَضَةِ عَلَى سَبِيلِ الْمُنَاقَضَةِ فَقَبِلَ الْمُعَارِضُ لَهُ حُكْمَ التَّأْبِيدِ فَكَانَ الْبَقَاءُ بِدَلِيلِهِ، وَكَلَامُنَا فِيمَا ثَبَتَ بَقَاؤُهُ بِلَا دَلِيلٍ كَحَيَاةِ الْمَفْقُودَةِ وَكَذَلِكَ الْأَمْرُ الْمُطْلَقُ فِي حَيَاةِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - إنَّمَا يَتَنَاوَلُ حُكْمًا يَحْتَمِلُ التَّوْقِيتَ فَيَصِيرُ فِي الْبَقَاءِ احْتِمَالٌ فَأَمَّا حُكْمُ الطَّهَارَةِ وَحُكْمُ الْحَدَثِ فَلَا يَحْتَمِلُ التَّوْقِيتَ

ــ

[كشف الأسرار]

يُضَافُ إلَيْهِ لَا عَلَى مَعْنَى أَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى مُبْقٍ أَصْلًا وَذَلِكَ أَنَّهُ إذَا ثَبَتَ مَوْتُ إنْسَانٍ، أَوْ بِنَاءِ دَارٍ كَانَ ابْتِدَاؤُهُ مُفْتَقِرًا إلَى سَبَبٍ ظَاهِرٍ بَعْدَمَا عَلِمْنَا يَقِينًا أَنَّهُ ثَابِتٌ بِإِيجَادِ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَا عُرِفَ فِي مَسْأَلَةِ الْمُتَوَلِّدَاتِ فَأَمَّا بَقَاؤُهُ فَلَا يَفْتَقِرُ إلَى سَبَبٍ ظَاهِرٍ بَلْ يَبْقَى بِإِبْقَاءِ اللَّهِ تَعَالَى إلَى أَنْ يُوجَدَ الْقَاطِعُ مِنْ غَيْرِ سَبَبٍ يُضَافُ إلَيْهِ فَكَذَا الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ يَفْتَقِرُ فِي ابْتِدَاءِ ثُبُوتِهِ إلَى دَلِيلٍ وَلَمَّا ثَبَتَ بِدَلِيلٍ يَبْقَى بِإِبْقَاءِ اللَّهِ تَعَالَى إلَى أَنْ يُوجَدَ الْمُزِيلُ مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ ظَاهِرٍ يَدُلُّ عَلَى بَقَائِهِ وَلَمَّا لَمْ يَحْصُلْ الْعِلْمُ بِعَدَمِ الْمُزِيلِ لَمْ يَحْصُلْ الْعِلْمُ بِالْبَقَاءِ فَكَانَ الْبَقَاءُ ثَابِتًا لِعَدَمِ الْعِلْمِ بِالْمُزِيلِ لَا لِلْعِلْمِ بِعَدَمِ الْمُزِيلِ فَلَمْ يَصْلُحْ حُجَّةً عَلَى الْغَيْرِ.

(فَإِنْ قِيلَ) إنْ لَمْ يَحْصُلْ الْعِلْمُ بِالْبَقَاءِ فَقَدْ حَصَلَ الظَّنُّ الْغَالِبُ بِهِ فَالِاجْتِهَادُ فِي طَلَبِ الْمُزِيلِ وَعَدَمِ الظَّفَرِ بِهِ، وَالدَّلِيلُ الظَّنِّيُّ حُجَّةٌ فِي الشَّرْعِ كَالْيَقِينِيِّ فَيَصِحُّ الْإِلْزَامُ بِهِ عَلَى الْغَيْرِ كَمَا يَصِحُّ بِالْقِيَاسِ (قُلْنَا) لَا نُسَلِّمُ أَنَّ كُلَّ ظَنٍّ مُعْتَبَرٌ فِي الشَّرْعِ بَلْ الْمُعْتَبَرُ هُوَ الدَّلِيلُ الظَّنِّيُّ الَّذِي قَامَ دَلِيلٌ قَطْعِيٌّ عَلَى اعْتِبَارِهِ مِثْلَ الْقِيَاسِ وَخَبَرِ الْوَاحِدِ وَلَمْ يَقُمْ هَاهُنَا دَلِيلٌ قَطْعِيٌّ وَلَا ظَنِّيٌّ عَلَى اعْتِبَارِهِ فَلَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِهِ عَلَى الْغَيْرِ كَمَا لَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ بِالظَّنِّ الْحَاصِلِ بِالتَّحَرِّي عَلَى الْغَيْرِ قَوْلُهُ (أَلَا تَرَى) تَوْضِيحٌ لِقَوْلِهِ الدَّلِيلُ الْمُوجِبُ لِحُكْمٍ لَا يُوجِبُ بَقَاءَهُ وَإِشَارَةٌ إلَى أَنَّ اسْتِصْحَابَ الْعَدَمِ مِثْلُ اسْتِصْحَابِ الْوُجُودِ وَذَكَرَ الْقَاضِي الْإِمَامُ فِي التَّقْوِيمِ أَنَّ الِاحْتِجَاجَ بِالِاسْتِصْحَابِ عَمَلٌ بِلَا دَلِيلٍ وَذَكَرَ مِثَالَ الِاسْتِصْحَابِ فِي الْمَعْدُومِ وَالْمَوْجُودِ ثُمَّ قَالَ: وَهَذَا؛ لِأَنَّ ثُبُوتَ الْعَدَمِ لَا يُوجِبُ بَقَاءً وَلَا يَنْفِي حُدُوثَ عِلَّةٍ مَوْجُودَةٍ وَلَا ثُبُوتُ الْوُجُودِ بَعْدَهُ يُوجِبُ بَقَاءَهُ وَلَا يَنْفِي قِيَامَ مَا تَقَدَّمَ، أَلَا تَرَى أَنَّ عَدَمَ الشِّرَاءِ مِنْك لَا يَمْنَعُك عَنْ الشِّرَاءِ وَلَا يُوجِبُ أَيْضًا دَوَامَ الْعَدَمِ بَلْ يَدُومُ لِعَدَمِ الشِّرَاءِ مِنْك لِلْحَالِ لَا بِحُكْمِ الْعَدَمِ فِيمَا مَضَى وَإِذَا اشْتَرَيْت فَهَذَا الشِّرَاءُ مِنْك أَوْجَبَ الْمِلْكَ وَلَا يُوجِبُ بَقَاءَهُ، وَإِنَّمَا يَبْقَى بِعَدَمِ مَا يُزِيلُهُ وَلَا يَمْنَعُ حُدُوثَ مَا يُزِيلُهُ، وَحَيَاةُ الْإِنْسَانِ بِعِلَّتِهَا لَا يُوجِبُ الْبَقَاءَ وَلَا تَمْنَعُ طَرَيَان الْمَوْتِ وَمَا فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ إشْكَالٌ فَإِذَا أَرَادَ إثْبَاتَ دَوَامِ الْحَالَةِ الثَّانِيَةِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ بِكَوْنِهِ ثَابِتًا، وَهُوَ لَا يُوجِبُهُ بَلْ يَبْقَى لِاسْتِغْنَائِهِ عَنْ الدَّلِيلِ فِي بَقَائِهِ كَانَ مُحْتَجًّا بِلَا دَلِيلٍ.

وَقَوْلُهُ، أَلَا تَرَى أَنَّ الْفَسْخَ تَوْضِيحٌ لِقَوْلِهِ وَهَذَا لَا يَشْكُلُ لِمَا ذَكَرْنَا إشَارَةً إلَى قَوْلِهِ الدَّلِيلُ الْمُوجِبُ لَا يُوجِبُ الْبَقَاءَ، ثُمَّ أَجَابَ عَمَّا اسْتَدَلَّ الشَّافِعِيُّ بِهِ مِنْ الْمَسَائِلِ فَقَالَ وَأَمَّا فَصْلُ الطَّهَارَةِ وَالْمِلْكِ بِالشِّرَاءِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، وَهِيَ مَسْأَلَةُ الشَّهَادَةِ فَلَيْسَ مِمَّا نَحْنُ بِصَدَدِهِ بَلْ هِيَ مِنْ قَبِيلِ مَا ثَبَتَ بَقَاؤُهُ بِدَلِيلٍ كَدَلَائِل الشَّرْعِ بَعْدَ وَفَاةِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ حُكْمَ الشِّرَاءِ مِلْكٌ مُؤَبَّدٌ.

وَكَذَا حُكْمُ أَخَوَاتِهِ مِنْ النِّكَاحِ وَالْوُضُوءِ وَالْحَدَثِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ تَوْقِيتُ هَذِهِ الْأَحْكَامِ صَرِيحًا فَإِنَّهُ لَوْ قَالَ اشْتَرَيْت إلَى كَذَا، أَوْ تَوَضَّأْت إلَى كَذَا، أَوْ قَالَ اشْتَرَيْت عَلَى أَنْ يَثْبُتَ الْمِلْكُ فِي سَنَةٍ أَوْ سَنَتَيْنِ، أَوْ تَوَضَّأْت عَلَى أَنْ يَثْبُتَ الطَّهَارَةُ إلَى وَقْتِ كَذَا، أَوْ تَزَوَّجْت عَلَى أَنْ يَثْبُتَ الْحِلُّ إلَى مُدَّةِ كَذَا لَا يَصِحُّ بَلْ يَفْسُدُ الْعَقْدُ، أَوْ الشَّرْطُ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ هَذِهِ الْأَحْكَامُ مُؤَبَّدَةً وَكَانَ بَقَاؤُهَا بِالِاسْتِصْحَابِ لَجَازَ تَوْقِيتُهَا كَالْحُكْمِ الثَّابِتِ ابْتِدَاءً بِدَلِيلٍ شَرْعِيٍّ فِي زَمَانِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَكَسَائِرِ مَا ثَبَتَ بَقَاؤُهُ بِالِاسْتِصْحَابِ أَلَا إنَّ هَذِهِ الْأَحْكَامَ مَعَ كَوْنِهَا مُؤَبَّدَةً تَحْتَمِلُ السُّقُوطَ بِالْمُعَارِضِ عَلَى سَبِيلِ الْمُنَاقَضَةِ يَعْنِي بِمُعَارِضٍ يُنَاقِضُ الْأَوَّلَ وَيُضَادُّهُ كَالْفَسْخِ لِلْبَيْعِ وَالطَّلَاقِ

<<  <  ج: ص:  >  >>