لِأَنَّ لَا دَلِيلَ بِمَنْزِلَةِ لَا رَجُلَ فِي الدَّارِ، وَهَذَا لَا يَحْتَمِلُ وُجُودَهُ فَلَا دَلِيلَ كَيْفَ اُحْتُمِلَ وُجُودٌ وَكَيْف صَارَ دَلِيلًا
ــ
[كشف الأسرار]
لَكِنَّ النَّافِيَ يُنْكِرُ وُجُودَهُ وَيَدَّعِي انْتِفَاءَهُ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ فَلَا يُطَالَبُ بِالدَّلِيلِ وَاحْتَجَّ الْفَرِيقُ الثَّالِثُ بِأَنَّ الْعَدَمَ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ لَيْسَ عِنْدَهُ دَلِيلُ الْوُجُودِ وَالْخَصْمُ إذَا ادَّعَى دَلِيلَ الْوُجُودِ لَا يَكُونُ الْعَدَمُ حُجَّةً عَلَيْهِ لِأَنَّ الْعَدَمَ احْتِمَالُ التَّغْيِيرِ بِدَلِيلِهِ، وَهُوَ مُدَّعِيهِ، وَقَوْلُ الْآخَرِ عِنْدِي دَلِيلُهُ مُحْتَمِلٌ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ وَيَجُوزُ أَنْ لَا يَكُونَ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَى الْخَصْمِ فَبَقِيَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُحْتَمِلًا فَجُعِلَ حُجَّةً فِي حَقِّ نَفْسِهِ دُونَ صَاحِبِهِ وَوَجْهُ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ أَنْ لَا دَلِيلَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ إلَّا أَنَّ الْعَدَمَ إذَا كَانَ ثَابِتًا بِدَلِيلٍ يَبْقَى إلَى أَنْ يُوجَدُ الْمُغَيِّرُ؛ لِأَنَّ دَلِيلَ الْعَدَمِ يُوجِبُ بَقَاءَ الْعَدَمِ إلَى أَنْ يَعْتَرِيَهُ الزَّوَالُ فَكَانَ قَوْلُهُ لَا دَلِيلَ احْتِجَاجًا بِذَلِكَ الدَّلِيلِ وَذَلِكَ الدَّلِيلُ حُجَّةٌ عَلَى خَصْمِهِ فَأَمَّا إذَا لَمْ يَسْتَنِدْ إلَى دَلِيلٍ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا الِاحْتِجَاجُ بِقَوْلِهِ لَا دَلِيلَ.
وَهُوَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ النَّصُّ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ} [البقرة: ١١١] أَخْبَرَ عَنْ الْيَهُودِ الَّذِينَ نَفَوْا دُخُولَ الْمُسْلِمِينَ الْجَنَّةَ وَأَثْبَتُوا دُخُولَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِيهَا ثُمَّ أَمَرَ نَبِيَّهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِطَلَبِ الْحُجَّةِ وَالْبُرْهَانِ عَلَى النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ جَمِيعًا فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا بُدَّ لِلنَّفْيِ مِنْ الْحُجَّةِ وَبِالْمَعْقُولِ، وَهُوَ أَنَّ نَفْيَ كَوْنِ الشَّيْءِ حَلَالًا أَوْ حَرَامًا، أَوْ وَاجِبًا أَوْ مَنْدُوبًا مِنْ أَحْكَامِ الشَّرْعِ كَالْإِثْبَاتِ فَإِنَّ انْتِفَاءَ وُجُوبِ صَوْمِ شَوَّالٍ وَصَلَاةِ الضُّحَى مِنْ أَحْكَامِ الشَّرْعِ كَوُجُوبِ رَمَضَانَ وَصَلَاةِ الظُّهْرِ وَانْتِفَاءِ الْحِلِّ عَنْ الْخَمْرِ حُكْمُ الشَّرْعِ كَثُبُوتِ الْحِلِّ فِي الْخَلِّ، وَالْأَحْكَامُ لَا يَثْبُتُ إلَّا بِأَدِلَّتِهَا فَمَنْ ادَّعَى فِي شَيْءٍ مِنْ الْأَشْيَاءِ حُكْمًا مِنْ إثْبَاتٍ، أَوْ نَفْيٍ فَعَلَيْهِ إقَامَةُ الدَّلِيلِ وَلَا دَلِيلَ لَا يَصْلُحُ أَنْ يَكُونَ دَلِيلًا؛ لِأَنَّهُ نَفْيٌ لِلدَّلِيلِ وَنَفْيُ الشَّيْءِ لَا يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ إثْبَاتَ ذَلِكَ الشَّيْءِ كَقَوْلِ الْإِنْسَانِ لَا بَيْعَ لَيْسَ بِبَيْعٍ وَلَا زَيْدَ لَيْسَ بِزَيْدٍ فَكَانَ التَّمَسُّكُ بِالنَّفْيِ تَمَسُّكًا بِعَدَمِ الدَّلِيلِ، وَعَدَمُ الدَّلِيلِ لَا يَكُونُ دَلِيلًا فَإِنْ قِيلَ قَوْلُهُ لَا دَلِيلَ نَفْيٍ لِلدَّلِيلِ الْمُثْبِتِ فَيَكُونُ انْتِفَاؤُهُ دَلِيلًا عَلَى النَّفْيِ ضَرُورَةً؛ لِأَنَّهُ لَا وَاسِطَةَ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ قُلْنَا: إنَّمَا يَكُونُ دَلِيلًا إذَا كَانَ النَّافِي مِمَّنْ لَهُ عِلْمٌ بِجَمِيعِ الْأَدِلَّةِ فَأَمَّا مِمَّنْ لَا عِلْمَ لَهُ بِذَلِكَ فَهُوَ جَهْلٌ بِالدَّلِيلِ لَا عِلْمَ بِانْتِفَاءِ الدَّلِيلِ فَلَا يَكُونُ حُجَّةً عَلَى الْغَيْرِ وَالتَّحْقِيقُ فِيهِ أَنَّهُ يُقَالُ لِلنَّافِي مَا ادَّعَيْت نَفْيَهُ عَرَفْت انْتِفَاهُ بِيَقِينٍ، أَوْ أَنْتَ شَاكٌّ فِيهِ فَإِنْ أَقَرَّ بِالشَّكِّ فَلَا تُطَالِبُ بِالدَّلِيلِ؛ لِأَنَّهُ مُعْتَرِفٌ بِالْجَهْلِ عَلَى مَا قُلْنَا.
وَإِنْ قَالَ أَتَيَقَّنُ بِالنَّفْيِ فَيُقَالُ بِعَيْنِك هَذَا حَصَلَ عَنْ ضَرُورَةٍ، أَوْ غَيْرِهَا وَلَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَقُولَ عَنْ ضَرُورَةٍ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ عَنْ ضَرُورَةٍ لَشَارَكَهُ جَمِيعُ الْعُقَلَاءِ فِيهِ لِعَدَمِ اخْتِصَاصِ الضَّرُورِيَّاتِ بِأَحَدٍ وَلَمْ يَحْصُلْ لَنَا الْعِلْمُ بِانْتِفَائِهِ ضَرُورَةً وَلَمَّا لَمْ يَعْرِفْهُ عَنْ ضَرُورَةٍ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَدَّعِيَ الْمَعْرِفَةَ عَنْ تَقْلِيدٍ، أَوْ نَظَرٍ وَاسْتِدْلَالٍ وَالتَّعْلِيلُ لَا يُفِيدُ الْعِلْمَ فَإِنَّ الْخَطَأَ جَائِزٌ عَلَى الْمُقَلِّدِ وَالْمُقَلِّدُ مُعْتَرِفٌ بِعَمَى نَفْسِهِ وَإِنَّمَا يَدَّعِي الْبَصِيرَةَ لِغَيْرِهِ وَإِنْ ادَّعَى الْمَعْرِفَةَ عَنْ نَظَرٍ وَاسْتِدْلَالٍ فَقَدْ أَقَرَّ أَنَّهُ نَفْيُ الْحُكْمِ بِدَلِيلٍ فَلَا بُدَّ مِنْ بَيَانِهِ قَالَ الْغَزَالِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَيَلْزَمُ عَلَى إسْقَاطِ الدَّلِيلِ عَنْ النَّافِي أَمْرَانِ شَنِيعَانِ: أَحَدُهُمَا أَنْ لَا يَجِبَ الدَّلِيلُ عَلَى نَافِي حَدَثِ الْعَالَمِ وَنَافِي الصَّانِعِ وَنَافِي النُّبُوَّاتِ وَنَافِي تَحْرِيمِ الزِّنَا وَالْخَمْرِ وَالْمَيْتَةِ وَنِكَاحِ الْمَحَارِمِ، وَهُوَ مُحَالٌ وَالثَّانِي أَنَّ الدَّلِيلَ إذَا سَقَطَ عَنْ هَؤُلَاءِ لَمْ يَعْجِزْ أَنْ يُعَبِّرَ الْمُثْبِتُ عَنْ مَقْصُودِ إثْبَاتِهِ بِالنَّفْيِ فَيَقُولُ بَدَلَ قَوْلِهِ مُحْدَثٌ إنَّهُ لَيْسَ بِقَدِيمٍ وَبَدَلَ قَوْلِهِ قَادِرٌ إنَّهُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute