وَأَمَّا الَّذِي ظَهَرَ فَسَادُهُ وَاسْتَتَرَتْ صِحَّتُهُ، وَأَثَرُهُ فَهُوَ الْقِيَاسُ الَّذِي عَمِلَ بِهِ عُلَمَاؤُنَا - رَحِمَهُمُ اللَّهُ - قَابَلَهُ اسْتِحْسَانٌ ظَهَرَ أَثَرُهُ وَاسْتَتَرَ فَسَادُهُ فَسَقَطَ الْعَمَلُ بِهِ مِثَالُهُ أَنَّهُمْ قَالُوا فِيمَنْ تَلَا آيَةَ السَّجْدَةِ فِي الصَّلَاةِ أَنَّهُ يَرْكَعُ بِهَا قِيَاسًا؛ لِأَنَّ النَّصَّ قَدْ وَرَدَ بِهِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَخَرَّ رَاكِعًا} [ص: ٢٤] ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا يَجُوزُ؛ لِأَنَّ الشَّرْعَ أَمَرَنَا بِالسُّجُودِ، وَالرُّكُوعُ خِلَافُهُ كَمَا فِي سُجُودِ الصَّلَاةِ فَهَذَا أَثَرٌ ظَاهِرٌ. فَأَمَّا وَجْهُ الْقِيَاسِ فَمَجَازٌ مَحْضٌ لَكِنَّ الْقِيَاسَ أَوْلَى بِأَثَرِهِ الْبَاطِنِ، وَالِاسْتِحْسَانُ مَتْرُوكٌ لِفَسَادِهِ الْبَاطِنِ
ــ
[كشف الأسرار]
فَيَطْهُرُ؛ وَلِأَنَّا لَمْ نَتَيَقَّنْ بِالنَّجَاسَةِ عَلَى مِنْقَارِهِ فَيَثْبُتُ الْكَرَاهَةُ بِالْعَادَةِ دُونَ النَّجَاسَةِ كَمَا فِي الدَّجَاجَةِ الْمُخَلَّاةِ. ثُمَّ تَأَيَّدَ مَا ذَكَرْنَا بِالْعِلَّةِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا فِي الْهِرَّةِ فَإِنَّ مَعْنَى الْبَلْوَى يَتَحَقَّقُ فِي سُؤْرِ سِبَاعِ الطَّيْرِ؛ لِأَنَّهَا تَنْقُضُ مِنْ الْهَوَاءِ، وَلَا يُمْكِنُ صَوْنُ الْأَوَانِي عَنْهَا خُصُوصًا فِي الصَّحَارِي بِخِلَافِ سِبَاعِ الْوَحْشِ فَعَلَى هَذَا يَكُونُ مُسْتَحْسَنًا بِالضَّرُورَةِ أَيْضًا، وَإِثْبَاتُ الْكَرَاهَةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَنَّ الضَّرُورَةَ فِيهَا لَيْسَتْ بِلَازِمَةٍ فَلِوُجُودِ أَصْلِ الضَّرُورَةِ انْتَفَتْ النَّجَاسَةُ وَلِكَوْنِهَا غَيْرَ لَازِمَةٍ بَقِيَتْ الْكَرَاهَةُ.
طَعَنَ بَعْضُ الْمُخَالِفِينَ أَنَّا سَلَّمْنَا أَنَّ الِاسْتِحْسَانَ لَيْسَ قَوْلًا بِالتَّشَهِّي، وَلَكِنَّهُ تَخْصِيصُ الْعِلَّةِ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ إذَا كَانَ ثَابِتًا فِي صُورَةِ الِاسْتِحْسَانِ، وَفِي سَائِرِ الصُّوَرِ ثُمَّ تُرِكَ الْعَمَلُ بِهِ فِي صُورَةِ الِاسْتِحْسَانِ وَبَقِيَ مَعْمُولًا بِهِ فِي غَيْرِ تِلْكَ الصُّورَةِ كَانَ ذَلِكَ تَخْصِيصًا لَهُ، وَهُوَ بَاطِلٌ لِمَا سَنَذْكُرُ. فَأَشَارَ إلَى الْجَوَابِ بِقَوْلِهِ فَصَارَ هَذَا أَيْ الْمَعْنَى الَّذِي يُوجِبُ الطَّهَارَةَ بِصِفَةِ الْكَرَاهَةِ بَاطِنًا يَنْعَدِمُ ذَلِكَ الظَّاهِرُ، وَهُوَ الْقِيَاسُ فِي مُقَابَلَتِهِ فَسَقَطَ حُكْمُ الظَّاهِرِ لِعَدَمِهِ فِي نَفْسِهِ لَا أَنْ يَنْعَدِمَ حُكْمُهُ مَعَ وُجُودِهِ، وَعَدَمُ الْحُكْمِ لِعَدَمِ الْعِلَّةِ لَيْسَ مِنْ بَابِ تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ.
قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: وَمَنْ ادَّعَى أَنَّ الْقَوْلَ بِالِاسْتِحْسَانِ قَوْلٌ بِتَخْصِيصِ الْعِلَّةِ فَقَدْ أَخْطَأَ؛ لِأَنَّ بِمَا ذَكَرْنَا تَبَيَّنَ أَنَّ الْمَعْنَى الْمُوجِبَ لِنَجَاسَةِ سُؤْرِ سِبَاعِ الْوَحْشِ الرُّطُوبَةُ النَّجِسَةُ فِي الْآلَةِ الَّتِي تَشْرَبُ بِهَا، وَقَدْ انْعَدَمَ ذَلِكَ فِي سِبَاعِ الطَّيْرِ فَانْعَدَمَ الْحُكْمُ لِانْعِدَامِ الْعِلَّةِ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ مِنْ تَخْصِيصِ الْعِلَّةِ فِي شَيْءٍ وَعَلَى اعْتِبَارِ الصُّورَةِ يَتَرَاءَى ذَلِكَ، وَلَكِنْ يَتَبَيَّنُ عِنْدَ التَّأَمُّلِ انْعِدَامُ الْعِلَّةِ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ وُجُوبُ التَّحَرُّزِ عَنْ الرُّطُوبَةِ النَّجِسَةِ الَّتِي يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهَا مِنْ غَيْرِ حَرَجٍ، وَقَدْ صَارَ هَذَا مَعْلُومًا بِالتَّنْصِيصِ عَلَى هَذَا التَّعْلِيلِ فِي الْهِرَّةِ فَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ يَنْعَدِمُ بَعْضُ أَوْصَافِ الْعِلَّةِ كَانَ انْعِدَامُ الْحُكْمِ لِانْعِدَامِ الْعِلَّةِ فَلَا يَكُونُ تَخْصِيصًا.
قَوْلُهُ: (وَأَمَّا الَّذِي ظَهَرَ فَسَادُهُ) أَيْ الْقِيَاسُ الَّذِي ظَهَرَ فَسَادُهُ، وَهَذَا بَيَانُ الْقِسْمِ الثَّانِي مِنْ الْقِيَاسِ وَيَتَضَمَّنُ بَيَانَ الْقِسْمِ الثَّانِي مِنْ الِاسْتِحْسَانِ أَيْضًا. مِثَالُهُ أَيْ مِثَالُ الْقِيَاسِ الْمَوْصُوفِ أَنَّهُمْ يَعْنِي عُلَمَاءَنَا قَالُوا فِيمَنْ تَلَا آيَةَ السَّجْدَةِ فِي الصَّلَاةِ إنَّهُ يَرْكَعُ بِهَا قِيَاسًا. ذَكَرَ فِي الذَّخِيرَةِ إذَا تَلَا آيَةَ السَّجْدَةِ فِي صَلَاتِهِ، وَهِيَ فِي آخِرِ السُّورَةِ إلَّا آيَاتٍ بَقِينَ فَإِنْ شَاءَ رَكَعَ لَهَا، وَإِنْ شَاءَ سَجَدَ. وَاخْتَلَفَ الْمَشَايِخُ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ إنْ شَاءَ رَكَعَ، وَإِنْ شَاءَ سَجَدَ بَعْضُهُمْ قَالُوا مَعْنَاهُ إنْ شَاءَ سَجَدَ لَهَا سَجْدَةً عَلَى حِدَةٍ، وَإِنْ شَاءَ رَكَعَ رُكُوعًا عَلَى حِدَةٍ غَيْرَ أَنَّ الرُّكُوعَ يَحْتَاجُ إلَى النِّيَّةِ يَنْوِي الرُّكُوعَ لِلتِّلَاوَةِ، وَالسَّجْدَةُ لَا تَحْتَاجُ إلَيْهَا؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَ الْأَصْلِيَّ السَّجْدَةُ وَالرُّكُوعُ إنْ كَانَ يُخَالِفُ السَّجْدَةَ صُورَةً يُوَافِقُهَا مَعْنًى فَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ يُوَافِقُهَا مَعْنًى يَتَأَدَّى بِهِ الْوَاجِبُ، وَمِنْ حَيْثُ إنَّهُ يُخَالِفُهَا صُورَةً يَحْتَاجُ إلَى النِّيَّةِ بِخِلَافِ السَّجْدَةِ؛ لِأَنَّهَا هِيَ الْوَاجِبَةُ الْأَصْلِيَّةُ فَلَا يَحْتَاجُ فِيهَا إلَى النِّيَّةِ. وَبَعْضُهُمْ قَالُوا مَعْنَى قَوْلِهِ إنْ شَاءَ رَكَعَ لَهَا، وَإِنْ شَاءَ أَقَامَ رُكُوعَ الصَّلَاةِ مَقَامَ سَجْدَةِ التِّلَاوَةِ. قُلْت: وَإِلَى هَذَا الْقَوْلِ قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ خُوَاهَرْ زَادَهْ، وَأَكْثَرُ الْمُحَقِّقِينَ.
وَذَكَرَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ فِي الْمَبْسُوطِ بَعْدَ ذِكْرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ إنْ كَانَتْ السَّجْدَةُ فِي وَسَطِ السُّورَةِ يَنْبَغِي أَنْ يَسْجُدَ لَهَا ثُمَّ يَقُومَ فَيَقْرَأَ مَا بَقِيَ ثُمَّ يَرْكَعُ، وَإِنْ رَكَعَ فِي مَوْضِعِ السَّجْدَةِ أَجْزَأَهُ، وَإِنْ خَتَمَ السُّورَةَ ثُمَّ رَكَعَ لَمْ يُجْزِهِ ذَلِكَ عَنْ السَّجْدَةِ نَوَاهَا أَوْ لَمْ يَنْوِهَا؛ لِأَنَّهَا صَارَتْ دَيْنًا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute