وَبَيَانُهُ أَنَّ السُّجُودَ لَمْ يَجِبْ عِنْدَ التِّلَاوَةِ قُرْبَةً مَقْصُودَةً أَلَا تَرَى أَنَّهُ غَيْرُ مَشْرُوعٍ مُسْتَقِلًّا بِنَفْسِهِ، وَإِنَّمَا الْغَرَضُ مُجَرَّدُ مَا يَصْلُحُ تَوَاضُعًا عِنْدَ هَذِهِ التِّلَاوَةِ وَالرُّكُوعِ فِي الصَّلَاةِ بِعَمَلِ هَذَا الْعَمَلِ بِخِلَافِ الرُّكُوعِ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ وَبِخِلَافِ سُجُودِ الصَّلَاةِ فَصَارَ الْأَثَرُ الْخَفِيُّ مَعَ الْفَسَادِ الظَّاهِرِ أَحَقَّ مِنْ الْأَثَرِ الظَّاهِرِ مَعَ الْفَسَادِ الْبَاطِنِ
ــ
[كشف الأسرار]
عَلَيْهِ بِفَوَاتِ مَحَلِّ الْأَدَاءِ وَبِصَيْرُورَتِهَا دَيْنًا صَارَتْ مَقْصُودَةً بِنَفْسِهَا؛ لِأَنَّ مَا لَا يَكُونُ مَقْصُودًا لَا يَجِبُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ كَالطَّهَارَةِ لَا تَصِيرُ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ بِحَالٍ فَصَارَتْ بِمَنْزِلَةِ الصُّلْبِيَّةِ فَلَا يَتَأَدَّى بِالرُّكُوعِ، وَلَا بِسَجْدَةِ الصَّلَاةِ.
ثُمَّ قَالَ فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ بِالسَّجْدَةِ بِعَيْنِهَا فَالْقِيَاسُ أَنَّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ وَبِالْقِيَاسِ نَأْخُذُ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ لَا يُجْزِيهِ إلَّا السَّجْدَةُ فَمِنْ أَصْحَابِنَا مَنْ قَالَ مُرَادُهُ إذَا تَلَاهَا فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ وَرَكَعَ فِي الْقِيَاسِ يُجْزِيهِ؛ لِأَنَّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ يَتَقَارَبَانِ فَيَنُوبُ أَحَدُهُمَا عَنْ الْآخَرِ كَمَا يَنُوبُ فِي الصَّلَاةِ، وَفِي الِاسْتِحْسَانِ الرُّكُوعُ خَارِجَ الصَّلَاةِ لَيْسَ بِقُرْبَةٍ فَلَا يَنُوبُ عَمَّا هُوَ قُرْبَةٌ بِخِلَافِ الرُّكُوعِ فِي الصَّلَاةِ، وَإِلَّا ظَهَرَ أَنَّ مُرَادَهُ الْقِيَاسُ وَالِاسْتِحْسَانُ فِي الرُّكُوعِ فِي الصَّلَاةِ عِنْدَ وَضْعِ السَّجْدَةِ فَالشَّيْخُ بِقَوْلِهِ فِي الصَّلَاةِ رَدَّ الْقَوْلَ الْأَوَّلَ وَاخْتَارَ الْقَوْلَ الثَّانِيَ. ثُمَّ يَحْتَاجُ هَاهُنَا إلَى بَيَانِ وَجْهِ الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ أَوَّلًا ثُمَّ إلَى بَيَانِ قُوَّةِ أَثَرِ الْقِيَاسِ وَضَعْفِ أَثَرِ الِاسْتِحْسَانِ ثَانِيًا كَمَا أَشَارَ إلَيْهِ الشَّيْخُ.
فَوَجْهُ الْقِيَاسِ أَنَّ الرُّكُوعَ وَالسُّجُودَ يَتَشَابَهَانِ فِي مَعْنَى الْخُضُوعِ وَلِهَذَا أَطْلَقَ اسْمَ الرُّكُوعِ عَلَى السُّجُودِ فِي قَوْله تَعَالَى: {وَخَرَّ رَاكِعًا} [ص: ٢٤] أَيْ سَاجِدًا؛ لِأَنَّ الْخُرُورَ هُوَ السُّقُوطُ، وَإِنَّهُ مَوْجُودٌ فِي السُّجُودِ دُونَ الرُّكُوعِ، وَيُقَالُ رَكَعَتْ النَّخْلَةُ وَسَجَدَتْ إذَا طَأْطَأَتْ رَأْسَهَا، وَلَمَّا ثَبَتَ التَّشَابُهُ بَيْنَهُمَا يَسْقُطُ الْوَاجِبُ عَنْهُ بِالرُّكُوعِ كَمَا يَسْقُطُ بِالسُّجُودِ. أَوْ يُقَالُ لَمَّا ثَبَتَ التَّشَابُهُ يَنُوبُ الرُّكُوعُ عَنْ السُّجُودِ كَمَا تَنُوبُ الْقِيمَةُ عَنْ الْوَاجِبِ فِي بَابِ الزَّكَاةِ فَهَذَا قِيَاسٌ ظَاهِرٌ لَا حَاجَةَ فِيهِ إلَى زِيَادَةِ تَأَمُّلٍ بَلْ هُوَ اعْتِبَارٌ لِأَحَدِ الْفِعْلَيْنِ بِالْآخَرِ بِظَاهِرِ الشَّبَهِ.
وَظَاهِرُ قَوْلِهِ؛ لِأَنَّ النَّصَّ قَدْ وَرَدَ بِهِ أَيْ بِالرُّكُوعِ فِي مَقَامِ السُّجُودِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى {وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ} [ص: ٢٤] ، وَإِنْ كَانَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا تَمَسُّكٌ بِظَاهِرِ النَّصِّ، وَلَيْسَ بِقِيَاسٍ فَإِنَّهُ ذَكَرَ فِي نُسْخَةٍ أُخْرَى أَنَّ قَوْله تَعَالَى {وَخَرَّ رَاكِعًا} [ص: ٢٤] يَقْتَضِي وُجُوبَ الرُّكُوعِ عَقِيبَ التِّلَاوَةِ، سَوَاءٌ كَانَتْ فِي الصَّلَاةِ أَوْ خَارِجَ الصَّلَاةِ، وَهَذَا لَيْسَ بِقِيَاسٍ. قَوْلُهُ لَكِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ مَا ذَكَرْنَا.
وَوَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ الشَّرْعَ أَمَرَنَا بِالسُّجُودِ بِقَوْلِهِ: {فَاسْجُدُوا لِلَّهِ} [النجم: ٦٢] {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العلق: ١٩] وَالرُّكُوعُ خِلَافُ السُّجُودِ أَيْ غَيْرُهُ حَقِيقَةً أَلَا تَرَى أَنَّ الرُّكُوعَ فِي الصَّلَاةِ لَا يَنُوبُ عَنْ سُجُودِ الصَّلَاةِ، وَلَا السُّجُودُ عَنْ الرُّكُوعِ فَلَأَنْ لَا يَنُوبَ عَنْ سُجُودِ التِّلَاوَةِ كَانَ أَوْلَى؛ لِأَنَّ الْقُرْبَ بَيْنَ رُكُوعِ الصَّلَاةِ وَسُجُودِهَا مِنْ حَيْثُ إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مُوجِبُ التَّحْرِيمَةِ أَظْهَرُ مِنْ الْقُرْبِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سُجُودِ التِّلَاوَةِ وَلِهَذَا لَوْ تَلَا خَارِجَ الصَّلَاةِ فَرَكَعَ لَهَا لَمْ يَجُزْ عَنْ السَّجْدَةِ فَفِي الصَّلَاةِ أَوْلَى إنْ أَقَامَ رُكُوعَ الصَّلَاةِ مَقَامَ السُّجُودِ؛ لِأَنَّ الرُّكُوعَ مُسْتَحَقٌّ بِجِهَةٍ أُخْرَى. فَهَذَا أَيْ مَا ذَكَرْنَا أَنَّ الرُّكُوعَ خِلَافُ السُّجُودِ حَقِيقَةً إلَى آخِرِهِ أَثَرٌ ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّ الْمَأْمُورَ بِهِ لَا يَتَأَدَّى بِإِتْيَانِ مَا يُخَالِفُهُ فَفَسَدَ بِهِ وَجْهُ الْقِيَاسِ، وَصَارَ مَرْجُوحًا؛ لِأَنَّ هَذَا عَمَلٌ بِحَقِيقَةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَأَمَّا وَجْهُ الْقِيَاسِ فَمَجَازٌ مَحْضٌ أَيْ ثَابِتٌ بِدَلِيلٍ هُوَ مَجَازٌ مَحْضٌ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالرُّكُوعِ السُّجُودُ بِاتِّفَاقِ الْمُفَسِّرِينَ فَإِثْبَاتُ التَّشَابُهِ وَالْقُرْبِ بَيْنَهُمَا بِهَذَا الدَّلِيلِ، وَبِنَاءُ الْقِيَاسِ عَلَيْهِ يَكُونُ بِمَنْزِلَةِ الْعَمَلِ بِالْمَجَازِ فِي مُقَابَلَةِ الْحَقِيقَةِ وَلِهَذَا سَمَّيْنَا الثَّانِيَ اسْتِحْسَانًا؛ لِأَنَّهُ أَقْوَى، وَأَخْفَى بِالنِّسْبَةِ إلَى الْأَوَّلِ كَمَا تَرَى. فَهَذَا بَيَانُ ظُهُورِ أَثَرِ الِاسْتِحْسَانِ وَظُهُورِ فَسَادِ الْقِيَاسِ بِمُقَابَلَتِهِ. لَكِنَّ الْقِيَاسَ أَوْلَى بِالْعَمَلِ بِأَثَرِهِ الْبَاطِنِ أَيْ بِسَبَبِ قُوَّةِ أَثَرِهِ الْبَاطِنِ.
وَالِاسْتِحْسَانُ مَتْرُوكُ الْعَمَلِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute