للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَهَذَا قِسْمٌ عَزَّ وُجُودُهُ فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ فَالْأَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصَى، وَفَرْقٌ مَا بَيْنَ الْمُسْتَحْسَنِ بِالْأَثَرِ أَوْ الْإِجْمَاعِ أَوْ الضَّرُورَةِ، وَبَيْنَ الْمُسْتَحْسَنِ بِالْقِيَاسِ الْخَفِيِّ أَنَّ هَذَا يَصِحُّ تَعْدِيَتُهُ بِخِلَافِ الْأَقْسَامِ الْأُولَى؛ لِأَنَّهَا غَيْرُ مَعْلُولَةٍ

ــ

[كشف الأسرار]

لِفَسَادِهِ الْبَاطِنِ أَيْ الْخَفِيِّ. بَيَانُهُ أَيْ بَيَانُ الْأَثَرِ الْبَاطِنِ الَّذِي يَظْهَرُ بِهِ فَسَادُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّ السُّجُودَ عِنْدَ التِّلَاوَةِ لَمْ يَجِبْ قُرْبَةً مَقْصُودَةً أَيْ لَمْ يَجِبْ قُرْبَةً لِعَيْنِهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ غَيْرُ الْمَقْصُودِ بِنَفْسِهِ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مَشْرُوعٍ بِطَرِيقِ الِاسْتِبْدَادِ بِنَفْسِهِ وَلِهَذَا لَا يَلْتَزِمُ بِالنَّذْرِ كَمَا لَا يَلْتَزِمُ الطَّهَارَةَ بِهِ، وَإِنَّمَا الْغَرَضُ مُجَرَّدُ مَا يَصْلُحُ تَوَاضُعًا لِتَحْصُلَ بِهِ مُخَالَفَةُ الْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ امْتَنَعُوا عَنْ السُّجُودِ اسْتِكْبَارًا إذْ الِاقْتِدَاءُ بِالْمُقَرَّبِينَ الَّذِينَ تَبَادَرُوا إلَى السُّجُودِ تَقَرُّبًا وَافْتِخَارًا كَمَا أَخْبَرَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنْ الْفَرِيقَيْنِ فِي مَوَاضِعِ السُّجُودِ، وَفِي النُّصُوصِ الْمَذْكُورَةِ فِي تِلْكَ الْمَوَاضِعِ مِثْلُ قَوْله تَعَالَى: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ} [النحل: ٤٨] {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ - وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلالُهُمْ} [الرعد: ١٨ - ١٥] {وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ} [النحل: ٤٩] إشَارَةً إلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ السُّجُودِ التَّوَاضُعُ وَالْخُضُوعُ وَالِانْقِيَادُ.

وَكَذَا عَدَمُ اقْتِرَانِهِ بِالرُّكُوعِ كَمَا فِي سُجُودِ الصَّلَاةِ، وَشَرْعِيَّةُ التَّدَاخُلِ فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ عَيْنَهُ لَيْسَ بِمَقْصُودٍ بَلْ الْمَقْصُودُ مِنْهُ التَّوَاضُعُ لَكِنْ بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ عِبَادَةً بِقَوْلِهِ تَعَالَى {إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ} [الأعراف: ٢٠٦] وَبِالْإِجْمَاعِ وَلِهَذَا شَرَطَ فِيهِ الْوُضُوءَ وَاسْتِقْبَالَ الْقِبْلَةِ. وَالرُّكُوعُ فِي الصَّلَاةِ يَعْمَلُ هَذَا الْعَمَلَ أَيْ يَحْصُلُ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ السُّجُودِ بِالرُّكُوعِ فِي الصَّلَاةِ لِحُصُولِ مَعْنَى التَّوَاضُعِ وَالْعِبَادَةِ فِيهِ فَيَسْقُطُ عِنْدَ السُّجُودِ بِهِ كَمَا سَقَطَتْ الطَّهَارَةُ لِلصَّلَاةِ بِطَهَارَةٍ وَقَعَتْ لِغَيْرِ الصَّلَاةِ، وَكَالسَّعْيِ إلَى الْجُمُعَةِ يَسْقُطُ بِالسَّعْيِ لِعِيَادَةِ الْمَرِيضِ. وَتَأَيَّدَ مَا ذَكَرْنَا بِمَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - أَنَّهُ كَانَ إذَا تَلَا آيَةَ السَّجْدَةِ فِي الصَّلَاةِ رَكَعَ. بِخِلَافِ الرُّكُوعِ فِي غَيْرِ الصَّلَاةِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِعِبَادَةٍ بِخِلَافِ سُجُودِ الصَّلَاةِ حَيْثُ لَا يَجُوزُ إقَامَةُ الرُّكُوعِ مَقَامَهُ، وَلَا عَكْسُهُ؛ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَقْصُودٌ بِنَفْسِهِ ثَبَتَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} [الحج: ٧٧] ، وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -: «مَكِّنْ جَبْهَتَك مِنْ الْأَرْضِ.» «وَأُمِرْت أَنْ أَسْجُدَ عَلَى سَبْعَةِ أَعْضَاءٍ» وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْآثَارِ فَلَا تَتَأَدَّى بِغَيْرِهِ.

فَصَارَ الْأَثَرُ الْخَفِيُّ لِلْقِيَاسِ، وَهُوَ حُصُولُ الْمَقْصُودِ بِالرُّكُوعِ. مَعَ الْفَسَادِ الظَّاهِرِ، وَهُوَ الْعَمَلُ بِالْمَجَازِ مَعَ إمْكَانِهِ بِالْعَمَلِ بِالْحَقِيقَةِ وَاعْتِبَارِ نَفْسِ الشَّبَهِ أَحَقَّ مِنْ الْأَثَرِ الظَّاهِرِ لِلِاسْتِحْسَانِ، وَهُوَ الْعَمَلُ بِالْحَقِيقَةِ مَعَ الْفَسَادِ الْبَاطِنِ، وَهُوَ جَعْلُ غَيْرِ الْمَقْصُودِ مُسَاوِيًا لِلْمَقْصُودِ. قَوْلُهُ: (وَهَذَا) أَيْ الْقِسْمُ الثَّانِي مِنْ الْقِيَاسِ، وَهُوَ الَّذِي تَرَجَّحَ عَلَى الِاسْتِحْسَانِ بِقُوَّةِ أَثَرِهِ الْبَاطِنِ قِسْمٌ عَزَّ وُجُودُهُ. وَسَمِعْت مِنْ شَيْخِي - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ إلَّا فِي سِتِّ مَسَائِلَ أَوْ سَبْعٍ.

مِنْهَا مَا إذَا ادَّعَى الرَّهْنَ الْوَاحِدَ رَجُلَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَقُولُ رَهَنْتنِي بِأَلْفٍ، وَقَبَضْته وَيُقِيمُ الْبَيِّنَةَ فِي الِاسْتِحْسَانِ يَقْتَضِي بِأَنَّهُ مَرْهُونٌ عِنْدَهُمَا وَيُجْعَلُ كَأَنَّهُمَا ارْتَهَنَا مَعًا لِجَهَالَةِ التَّارِيخِ كَمَا فِي الْغَرْقَى وَالْهَدْمَى، وَكَمَا لَوْ ادَّعَيَا الشِّرَاءَ، وَفِي الْقِيَاسِ تَبْطُلُ الْبَيِّنَتَانِ لِتَعَذُّرِ الْقَضَاءِ بِالْكُلِّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِلِاسْتِحَالَةِ تَعَذُّرِ الْقَضَاءِ لِوَاحِدٍ بِعَيْنِهِ لِعَدَمِ الْأَوْلَوِيَّةِ وَلِكُلِّ وَاحِدٍ بِنِصْفِهِ لِتَأْدِيَتِهِ إلَى الشُّيُوعِ الْمَانِعِ مِنْ صِحَّةِ الرَّهْنِ فَتَعَيَّنَ التَّهَاتُرُ.

وَأَخَذْنَا بِالْقِيَاسِ لِقُوَّةِ أَثَرِهِ الْبَاطِنِ فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَدَّعِي عَقْدًا عَلَى حِدَةٍ وَيُثْبِتُ بِبَيِّنَتِهِ حَبْسًا يَكُونُ وَسِيلَةً إلَى مِثْلِهِ فِي الِاسْتِيفَاءِ وَبِهَذَا الْقَضَاءِ يَثْبُتُ عَقْدٌ وَاحِدٌ وَحَبْسٌ يَكُونُ وَسِيلَةً إلَى شَطْرِهِ فِي الِاسْتِيفَاءِ فَيَكُونُ قَضَاءً عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الْحُجَّةِ. بِخِلَافِ الرَّهْنِ مِنْ رَجُلَيْنِ فَإِنَّ الْعَقْدَ هُنَاكَ وَاحِدٌ فَيُمْكِنُ

<<  <  ج: ص:  >  >>