للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَاحْتَجَّ بِأَنَّ التَّخْصِيصَ غَيْرُ الْمُنَاقَضَةِ لُغَةً، وَهَذَا ظَاهِرٌ؛ لِأَنَّهُ بَيَانُ أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ لَا نَقْضٌ وَلَا إبْطَالٌ، وَقَدْ صَحَّ الْخُصُوصُ عَلَى: الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ دُونَ الْمُنَاقَضَةِ قَالَ وَلِأَنَّ الْعُدُولَ عَنْ الْقِيَاسِ بِسُنَّةٍ أَوْ إجْمَاعٍ أَوْ ضَرُورَةٍ أَوْ اسْتِحْسَانٍ مَخْصُوصٍ مِنْهُ بِالْإِجْمَاعِ وَلِأَنَّ الْخَصْمَ ادَّعَى أَنَّ هَذَا الْوَصْفَ عِلَّةٌ فَإِذَا وُجِدَ وَلَا حُكْمَ لَهُ احْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ الْعَدَمُ لِفَسَادِ الْعِلَّةِ فَيَتَنَاقَضُ وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ الْعَدَمُ لِمَانِعٍ فَوَجَبَ أَنْ يُقْبَلَ بَيَانُهُ

ــ

[كشف الأسرار]

الشَّرْعِيَّةَ أَمَارَةٌ عَلَى الْحُكْمِ، وَلَيْسَتْ بِمُوجِبَةٍ بِنَفْسِهَا، وَإِنَّمَا صَارَتْ أَمَارَةً بِجَعْلِ جَاعِلٍ فَجَازَ أَنْ تُجْعَلَ أَمَارَةً لِلْحُكْمِ فِي مَحَلٍّ، وَلَمْ تُجْعَلْ أَمَارَةً فِي مَحَلٍّ كَمَا جَازَ أَنْ تُجْعَلَ أَمَارَةً فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ وَبِتَخَلُّفِ الْحُكْمِ عَنْهَا فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ لَا يَخْرُجُ عَنْ كَوْنِهَا أَمَارَةً؛ لِأَنَّ الْأَمَارَةَ لَا تَسْتَلْزِمُ وُجُودَ الْحُكْمِ فِي كُلِّ الْمَوَاضِعِ بَلْ الشَّرْطُ فِيهَا غَلَبَةُ وُجُودِ الْحُكْمِ عِنْدَهَا كَالْغَيْمِ الرَّطْبِ فِي الشِّتَاءِ أَمَارَةٌ لِلْمَطَرِ قَدْ يَتَخَلَّفُ فِي بَعْضِ الْأَحَايِينِ، وَلَا يَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِأَمَارَةٍ. وَبِأَنَّ تَخْصِيصَ الْعِلَّةِ الْمَنْصُوصَةِ جَائِزٌ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ السَّرِقَةَ وَالزِّنَا عِلَّتَيْنِ لِلْقَطْعِ وَالْحَدِّ، وَقَدْ يُوجَدُ سَارِقٌ لَا يُقْطَعُ وَزَانٍ لَا يُحَدُّ وَجَعَلَ الْمُشَاقَّةَ عِلَّةً لِقَتْلِ الْكُفَّارِ بِقَوْلِهِ عَزَّ اسْمُهُ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [الأنفال: ١٣] بَعْدَ قَوْلِهِ {فَاضْرِبُوا فَوْقَ الأَعْنَاقِ} [الأنفال: ١٢] ، وَقَدْ وُجِدَتْ الْعِلَّةُ فِي حَقِّ الْمَرْأَةِ بِدُونِ الْقَتْلِ وَجَعَلَ وُقُوعَ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ عِلَّةً لِحُرْمَةِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ} [المائدة: ٩١] وَالْعِلَّةُ مَوْجُودَةٌ فِي حَالَةِ الْإِكْرَاهِ مَعَ تَخَلُّفِ حُكْمِهَا عَنْهَا، وَلَمَّا جَازَ تَخْصِيصُ الْمَنْصُوصَةِ جَازَ تَخْصِيصُ الْمُسْتَنْبَطَةِ؛ لِأَنَّ مَا يَجُوزُ عَلَى الشَّيْءِ أَوْ مَا يَسْتَحِيلُ جَوَازُهُ عَلَيْهِ لَا يَخْتَلِفُ لِاخْتِلَافِ طُرُقِهِ، وَلَمْ يُوجَدْ فِي الْعِلَّتَيْنِ اخْتِلَافُ الطَّرِيقِ فَإِنَّهُ فِي أَحَدَيْهِمَا النَّصُّ، وَفِي الْأُخْرَى الِاسْتِنْبَاطُ، وَذَلِكَ لَا يُوجِبُ الِاخْتِلَافَ فِيهِمَا بَعْدَمَا ثَبَتَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عِلَّةٌ.

أَلَا تَرَى أَنَّ دَلَالَةَ الْعِلَّةِ عَلَى ثُبُوتِ الْحُكْمِ فِي مَحَالِّهَا كَدَلَالَةِ الْعَامِّ عَلَى أَفْرَادِهِ فَلَمَّا جَازَ تَخْصِيصُ الْعَامِّ جَازَ تَخْصِيصُ الْعِلَّةِ. وَبِأَنَّ خُصُوصَ الْعِلَّةِ لَيْسَ إلَّا امْتِنَاعَ ثُبُوتِ مُوجِبِ الدَّلِيلِ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ لِمَانِعٍ يَمْنَعُ بِطَرِيقِ الْمُعَارَضَةِ وَذَلِكَ مِمَّا لَا يَرُدُّهُ الْعَقْلُ، وَلَا يَكُونُ دَلِيلَ الْفَسَادِ كَمَا فِي الْعِلَّةِ الْمَحْسُوسَةِ فَإِنَّ النَّارَ عِلَّةٌ لِلْإِحْرَاقِ ثُمَّ إنَّهَا لَمْ تُؤَثِّرْ فِي إبْرَاهِيمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -، وَلَا فِي الطَّلْقِ لِمَانِعٍ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّارَ لَيْسَتْ بِمُحْرِقَةٍ. وَبِمَا ذَكَرَ الشَّيْخُ فِي الْكِتَابِ أَنَّ التَّخْصِيصَ غَيْرُ الْمُنَاقَضَةِ، وَإِنَّمَا ذَكَرَ هَذَا؛ لِأَنَّ مَنْ أَنْكَرَ التَّخْصِيصَ جَعَلَهُ مِنْ بَابِ الْمُنَاقَضَةِ إذْ يَلْزَمُ مِنْهُ الْقَوْلُ بِتَصْوِيبِ كُلِّ مُجْتَهِدٍ وَذَلِكَ يَسْتَلْزِمُ اعْتِقَادَ حَقِّيَّةَ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ وَالْجَوَازِ وَالْفَسَادِ فِي شَيْءٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ تَنَاقُضٌ فَقَالَ التَّخْصِيصُ غَيْرُ الْمُنَاقَضَةِ. وَتَقْرِيرُهُ مَا ذَكَرَ الْقَاضِي الْإِمَامُ أَبُو زَيْدٍ وَشَمْسُ الْأَئِمَّةِ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِي كِتَابِهِمَا أَنَّ التَّخْصِيصَ غَيْرُ الْمُنَاقَضَةِ لُغَةً وَشَرْعًا، وَإِجْمَاعًا، وَفِقْهًا. أَمَّا اللُّغَةُ فَلِأَنَّ النَّقْضَ اسْمٌ لِفِعْلٍ يَرِدُ فِعْلًا سَبَقَ عَلَى سَبِيلِ الْمُضَادَّةِ كَنَقْضِ الْبُنْيَانِ وَنَقْضِ كُلِّ مُؤَلَّفٍ وَالْخُصُوصُ بَيَانُ أَنَّهُ لَمْ يَدْخُلْ فِي الْجُمْلَةِ لَا أَنَّهُ رَفَعَ الثُّبُوتَ أَلَا تَرَى أَنَّ ضِدَّ الْخُصُوصِ الْعُمُومُ، وَضِدَّ النَّقْضِ الْبِنَاءُ وَالتَّأْلِيفُ.

وَأَمَّا الشَّرْعُ فَلِأَنَّ التَّخْصِيصَ جَائِزٌ فِي النُّصُوصِ الشَّرْعِيَّةِ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَالتَّنَاقُضُ لَا يَجُوزُ فِيهَا أَصْلًا فَيَتَغَايَرَانِ، وَإِلَيْهِ أَشَارَ الشَّيْخُ لِقَوْلِهِ، وَقَدْ صَحَّ الْخُصُوصُ إلَى آخِرِهِ.

، وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ فَلِأَنَّ الْقَائِسِينَ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْأَحْكَامَ قَدْ تَثْبُتُ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ الشَّرْعِيِّ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ بِدَلِيلٍ أَقْوَى مِنْهُ مِنْ نَصٍّ أَوْ إجْمَاعٍ أَوْ ضَرُورَةٍ وَذَلِكَ يَكُونُ تَخْصِيصًا لَا مُنَاقَضَةً وَلِهَذَا سَمَّاهَا الشَّافِعِيُّ مَخْصُوصَةً عَنْ الْقِيَاسِ، وَنَحْنُ نُسَمِّيهَا مَعْدُولًا بِهَا عَنْ الْقِيَاسِ أَلَا تَرَى أَنَّ ذَلِكَ الْقِيَاسَ بَقِيَ مَعْمُولًا بِهِ فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ، وَالْقِيَاسُ الْمُنْتَقَضُ فَاسِدٌ لَا يَجُوزُ الْعَمَلُ بِهِ فِي مَوْضِعٍ

<<  <  ج: ص:  >  >>