وَمِثَالُهُ مِنْ الِاعْتِرَاضِ أَنْ يُجْعَلَ الْمَعْلُولُ عِلَّةً وَالْعِلَّةُ مَعْلُولًا؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ أَصْلٌ وَالْحُكْمُ تَابِعٌ فَإِذَا قَلَبْته فَقَدْ جَعَلْته مَنْكُوسًا، وَكَانَ هَذَا مُعَارَضَةً فِيهَا مُنَاقَضَةٌ؛ لِأَنَّ مَا جَعَلَهُ الْمُعَلِّلُ عِلَّةً لِمَا صَارَ حُكْمًا فِي الْأَصْلِ وَاحْتَمَلَ ذَلِكَ فَسَادَ الْأَصْلِ فَبَطَلَ الْقِيَاسُ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ هَذَا فِيمَا يَكُونُ التَّعْلِيلُ بِالْحُكْمِ فَأَمَّا بِالْوَصْفِ الْمَحْضِ فَلَا يَرِدُ عَلَيْهِ الْقَلْبُ مِثَالُهُ قَوْلُهُمْ الْكُفَّارُ جِنْسٌ يُجْلَدُ بِكْرُهُمْ مِائَةً فَيُرْجَمُ ثَيِّبُهُمْ كَالْمُسْلِمِينَ، وَمِثْلُ قَوْلِهِمْ الْقِرَاءَةُ تَكَرَّرَتْ فِي الْأُولَيَيْنِ فَكَانَتْ فَرْضًا فِي الْأُخْرَيَيْنِ كَالرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ فَقُلْنَا الْمُسْلِمُونَ إنَّمَا جُلِدَ بِكْرُهُمْ مِائَةً؛ لِأَنَّ ثَيِّبَهُمْ يُرْجَمُ، وَإِنَّمَا تَكَرَّرَ الرُّكُوعُ وَالسُّجُودُ فَرْضًا فِي الْأُولَيَيْنِ؛ لِأَنَّهُ تَكَرَّرَ فَرْضًا فِي الْأُخْرَيَيْنِ
ــ
[كشف الأسرار]
عَلَّلْنَا فِي الْجِصِّ مَثَلًا بِأَنَّهُ مَكِيلٌ جِنْسٌ فَيَجْرِي فِيهِ الرِّبَا كَالْحِنْطَةِ لَا يُمْكِنُ قَلْبُهُ بِأَنْ يُقَالَ إنَّمَا كَانَتْ الْحِنْطَةُ مَكِيلَ جِنْسٍ؛ لِأَنَّهُ يَجْرِي فِيهِ الرِّبَا؛ لِأَنَّ كَوْنَهُ مَكِيلَ جِنْسٍ سَابِقٌ عَلَيْهِ مِثَالُهُ أَيْ مِثَالُ مَا يَتَحَقَّقُ فِيهِ هَذَا النَّوْعِ مِنْ الْقَلْبِ قَوْلُهُمْ أَيْ قَوْلُ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فِي أَنَّ الْإِسْلَامَ لَيْسَ مِنْ شَرَائِطِ الْإِحْصَانِ حَتَّى لَوْ زَنَى الذِّمِّيُّ الْحُرُّ الثَّيِّبُ يُرْجَمُ عِنْدَهُمْ، الْكُفَّارُ جِنْسٌ يُجْلَدُ بِكْرُهُمْ مِائَةً فَيُرْجَمُ ثَيِّبُهُمْ كَالْمُسْلِمِينَ الْأَحْرَارِ مِنْهُمْ وَبِقَوْلِهِ مِائَةً أَشَارَ إلَى ذَلِكَ فَإِنَّ الْبِكْرَ مِنْ الْعَبِيدِ لَمَّا لَمْ يُجْلَدْ مِائَةً لَمْ يُرْجَمْ الثَّيِّبُ مِنْهُمْ وَالْبِكْرُ وَالثَّيِّبُ يَقَعَانِ عَلَى الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى وَمِثْلُ قَوْلِهِمْ فِي فَرْضِيَّةِ الْقِرَاءَةِ فِي جَمِيعِ الرَّكَعَاتِ الْقِرَاءَةُ تَكَرَّرَتْ فَرْضًا فِي الْأُولَيَيْنِ إلَى آخِرِهِ، وَاحْتَرَزُوا بِقَوْلِهِمْ فَرْضًا عَنْ السُّورَةِ فَإِنَّهَا تَكَرَّرَتْ، وَلَكِنْ غَيْرَ فَرْضٍ فَجَعَلُوا جَلْدَ الْمِائَةِ عِلَّةً لِوُجُوبِ الرَّجْمِ، وَالتَّكَرُّرُ فِي الْأُولَيَيْنِ عِلَّةٌ لِلْوُجُوبِ فِي الْبَاقِي فَقُلْنَا الْمُسْلِمُونَ إنَّمَا يُجْلَدُ بِكْرُهُمْ لِأَنَّ ثَيِّبَهُمْ يُرْجَمُ لَا أَنَّهُ يُرْجَمُ ثَيِّبُهُمْ؛ لِأَنَّهُ يُجْلَدُ بِكْرُهُمْ فَجَعَلْنَا مَا نَصَبَهُ عِلَّةً فِي الْأَصْلِ، وَهُوَ جَلْدُ الْمِائَةِ حُكْمًا، وَمَا جَعَلَهُ حُكْمًا فِيهِ، وَهُوَ رَجْمُ الثَّيِّبِ عِلَّةً فَانْتُقِضَ تَعْلِيلُهُمْ بِهَذَا الْقَلْبِ وَبَطَلَ لِبَقَائِهِ بِلَا أَصْلٍ إذْ لَمْ يَبْقَ إلَّا قَوْلُهُمْ: الْكُفَّارُ جِنْسٌ يُجْلَدُ بِكْرُهُمْ مِائَةً فَيُرْجَمُ ثَيِّبُهُمْ، وَهَذَا لَيْسَ بِشُبْهَةٍ فَضْلًا مِنْ أَنْ يَكُونَ حُجَّةً إذْ لَا مُسْتَنَدَ لَهُ أَصْلًا.
وَذَكَرَ فِي بَعْضِ الشُّرُوحِ، وَكَانَ هَذَا مُعَارَضَةً أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ تَعَرَّضَ لِلْمُتَنَازَعِ فِيهِ مِنْ حَيْثُ عَدَمُ الدَّلِيلِ عَلَى ثُبُوتِهِ فَإِنَّ الْقَالِبَ لَمَّا ادَّعَى أَنَّ عِلَّةَ ثُبُوتِ الْجَلْدِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِ الرَّجْمُ لَمْ يَبْقَ الْجَلْدُ عِلَّةً لِلرَّجْمِ فَعَدِمَ فِي حَقِّ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ، وَهُوَ الْكَافِرُ الذِّمِّيُّ عِلَّةُ الرَّجْمِ فَيَكُونُ الرَّجْمُ مُنْتَفِيًا لِانْتِفَاءِ دَلِيلِهِ فَيَكُونُ مُعَارَضَةً مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَلَعَمْرِي هُوَ أَقْرَبُ إلَى الْمُمَانَعَةِ مِنْهُ إلَى الْمُعَارَضَةِ؛ لِأَنَّهُ فِي الْحَقِيقَةِ مَنْعُ نَفْسِ الدَّلِيلِ وَصَلَاحِيَتُهُ لِإِثْبَاتِ الْحُكْمِ الْمُتَنَازَعِ فِيهِ مَعَ أَنَّهُ تَعْلِيلٌ بِالْعَدَمِ، وَهُوَ فَاسِدٌ فَكَيْفَ يَصْلُحُ مُعَارِضًا لِلتَّعْلِيلِ بِالْمَعْنَى الْوُجُودِيِّ.
وَاعْلَمْ بِأَنَّ تَجْوِيزَ الشَّيْخِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الِاعْتِرَاضَ عَلَى الْعِلَلِ الْمُؤَثِّرَةِ بِالْقَلْبِ بَعْدَ مَنْعِهِ الِاعْتِرَاضَ عَلَيْهَا بِالْمُنَاقَضَةِ، وَفَسَادِ الْوَضْعِ، مُشْكِلٌ؛ لِأَنَّ الْعِلَّةَ بَعْدَمَا ثَبَتَ تَأْثِيرُهَا بِدَلِيلٍ مُجْمَعٍ عَلَيْهِ لَا يَحْتَمِلُ الْقَلْبَ كَمَا لَا يَحْتَمِلُ الْمُنَاقَضَةَ، وَفَسَادَ الْوَضْعِ فَإِنَّهُ لَوْ ثَبَتَ التَّأْثِيرُ لِوُجُوبِ الْجَلْدِ فِي إيجَابِ الرَّجْمِ فِي حَقِّ الْمُسْلِمِينَ لَا يُمْكِنُ قَلْبُهُ بِجَعْلِ الرَّجْمِ عِلَّةً لِلْجَلْدِ أَلَا تَرَى أَنَّ فِي قَوْلِنَا فِي الْمُدَبَّرِ مَمْلُوكٌ تَعَلَّقَ عِتْقُهُ بِمُطْلَقِ مَوْتِ الْمَوْلَى فَلَا يَجُوزُ بَيْعُهُ كَأُمِّ الْوَلَدِ لَمَّا ظَهَرَ التَّأْثِيرُ لِتَعْلِيقِ الْعِتْقِ بِالْمَوْتِ فِي الْمَنْعِ عَنْ الْبَيْعِ فِي أُمِّ الْوَلَدِ لَا يُمْكِنُ قَلْبُهُ بِأَنْ يُقَالَ إنَّمَا تَعَلَّقَ الْعِتْقُ بِالْمَوْتِ؛ لِأَنَّ الْبَيْعَ لَمْ يَجُزْ.
وَكَذَا لَا يُمْكِنُ لِلْقَالِبِ بَيَانُ التَّأْثِيرِ لِتَعْلِيلِهِ بَعْدَمَا ظَهَرَ تَأْثِيرُ التَّعْلِيلِ الْأَوَّلِ وَبِدُونِ بَيَانِ التَّأْثِيرِ لَا يُقْبَلُ مِنْهُ قَلْبُهُ؛ لِأَنَّ الْقَلْبَ مُعَارَضَةٌ وَغَيْرُ الْمُؤَثِّرِ لَا يَصْلُحُ مُعَارِضًا لِلْمُؤَثِّرِ إذَا كَانَ كَذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَرِدَ الْقَلْبُ عَلَى الْعِلَلِ الْمُؤَثِّرَةِ كَفَسَادِ الْوَضْعِ وَالْمُنَاقَضَةِ، وَإِنَّمَا يَرِدُ عَلَى الطَّرْدِيَّةِ.
يُؤَيِّدُهُ مَا ذَكَرَ صَدْرُ الْإِسْلَامِ أَبُو الْيُسْرِ بَعْدَ بَيَانِ نَوْعَيْ الْقَلْبِ، وَالْقَلْبُ الْأَوَّلُ إنَّمَا يَجِيءُ فِي كُلِّ طَرْدٍ جَعَلَ الْحُكْمَ عِلَّةً، وَالْقَلْبُ الثَّانِي يَجِيءُ عَلَى كُلِّ طَرْدٍ مَا لَمْ يَظْهَرْ التَّأْثِيرُ، وَمَا ذُكِرَ فِي نُسْخَةٍ أُخْرَى مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ وَالْمُخَلِّصُ مِنْ الْقَلْبِ بِذَكَرِ تَأْثِيرِ الْوَصْفِ فِي الْحُكْمِ الَّذِي عُلِّلَ دُونَ الْحُكْمِ الَّذِي قَالَهُ خَصْمُهُ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الِاعْتِرَاضَ بِالْقَلْبِ بَعْدَ التَّأْثِيرِ غَيْرُ صَحِيحٍ وَأَنَّهُ كَالْمُنَاقَضَةِ، وَفَسَادِ الْوَضْعِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute