للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَالنَّوْعُ الثَّانِي إنْ رُدَّ عَلَى خِلَافِ سَنَنِهِ مِثْلُ قَوْلِهِمْ هَذِهِ عِبَادَةٌ لَا يَمْضِي فِي فَسَادِهَا فَلَا تُلْتَزَمُ بِالشُّرُوعِ كَالْوُضُوءِ فَيُقَالُ لَهُمْ لَمَّا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ فِيهِ عَمَلُ النَّذْرِ وَالشُّرُوعِ كَالْوُضُوءِ، وَهَذَا ضَعِيفٌ مِنْ وُجُوهِ الْقَلْبِ؛ لِأَنَّهُ لَمَّا جَاءَ بِحُكْمٍ آخَرَ ذَهَبَتْ الْمُنَاقَضَةُ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَكُنْ مِنْ هَذَا الْبَابِ فِي الْحَقِيقَةِ؛ وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَاءَ بِحُكْمٍ مُجْمَلٍ لَا يَصِحُّ مِنْ السَّائِلِ إلَّا بِطَرِيقِ الِابْتِدَاءِ؛ وَلِأَنَّ الْمُفَسَّرَ أَوْلَى؛ وَلِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْكَلَامِ مَعْنَاهُ، وَالِاسْتِوَاءُ مُخْتَلِفٌ فِي الْمَعْنَى سُقُوطٌ مِنْ وَجْهٍ وَثُبُوتٌ مِنْ وَجْهٍ عَلَى التَّضَادِّ وَذَلِكَ مُبْطِلٌ لِلْقِيَاسِ.

ــ

[كشف الأسرار]

الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ الْعَكْسُ لَيْسَ مِنْ هَذَا الْبَابِ الْقِسْمُ الْأَوَّلُ دُونَ الثَّانِي؛ لِأَنَّ الثَّانِيَ لَيْسَ بِعَكْسٍ حَقِيقَةً بَلْ هُوَ قَلْبٌ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ لَكِنَّهُ لَمَّا تَشَابَهَ الْعَكْسُ مِنْ وَجْهٍ أَدْخَلَهُ فِي هَذَا الْقِسْمِ.

وَأَصْلُهُ أَيْ أَصْلُ الْعَكْسِ لُغَةً رَدُّ الشَّيْءِ عَلَى سُنَنِهِ أَيْ رَجَعَهُ مِنْ وَرَائِهِ عَلَى طَرِيقِهِ الْأَوَّلِ مِثْلُ عَكْسِ الْمِرْآةِ إذَا رَدَّتْ الْمِرْآةُ نُورَ بَصَرِ النَّاظِرِ بِنُورِهَا حَتَّى انْعَكَسَ نُورُ الْبَصَرِ فَأَبْصَرَ النَّاظِرُ بِانْعِكَاسِ نُورِ بَصَرِهِ إلَى نَفْسِهِ نَفْسَهُ كَانَ لَهُ وَجْهَانِ فِي الْمِرْآةِ قَالَ صَدْرُ الْإِسْلَامِ: وَهَذَا قَوْلُ ثُمَامَةَ الْمُتَكَلِّمِ، وَهُوَ قَوْلُ الْمُعْتَزِلَةِ وَقَالَ عَامَّةُ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْأَشْعَرِيَّةُ: إنَّ الِانْعِكَاسَ لَا يَسْتَقِيمُ بَلْ يَرَى مَا يَرَى بِإِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّهُ جَلَّ جَلَالُهُ يُحْدِثُ صُوَرَ الْأَشْيَاءِ فِيهَا عِنْدَ مُقَابَلَةٍ مَخْصُوصَةٍ إذَا تَوَسَّطَ بَيْنَهُمَا جِسْمٌ شَفَّافٌ كَمَا يُحْدِثُ الرُّوحَ فِي الْبَدَنِ عِنْدَ اسْتِعْدَادِهِ وَصَلَاحِيَّتِهِ لِلْقَبُولِ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِطَرِيقِ الِانْعِكَاسِ إنَّ صُوَرَ الْأَشْيَاءِ تَحْدُثُ فِيهَا عِنْدَ الْمُقَابَلَةِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ نَاظِرٌ وَنَعْلَمُ قَطْعًا أَنَّ الْأَعْمَى إذَا قَابَلَ الْمِرْآةَ بِوَجْهِهِ يُحْدِثُ صُورَتَهُ فِيهِ، وَلَمْ يَكُنْ لِبَصَرِهِ نُورٌ يَنْعَكِسُ.

وَكَذَا لَوْ نَظَرَ مَنْ انْطَبَعَ صُورَتُهُ فِي الْمِرْآةِ فِي تِلْكَ الْحَالَةِ إلَى شَيْءٍ آخَرَ خَارِجَ الْمِرْآةِ لَا تَزُولُ صُورَتُهُ عَنْهَا، وَلَوْ كَانَ بِطَرِيقِ الِانْعِكَاسِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُبْقِيَ الصُّورَةَ فِيهَا بَعْدَمَا صَرَفَ طَرْفَهُ عَنْ الْمِرْآةِ فَعَرَفْنَا أَنَّ الْقَوْلَ بِالِانْعِكَاسِ لَيْسَ بِصَحِيحٍ إلَّا أَنَّ غَرَضَ الشَّيْخِ مِنْهُ التَّمْثِيلُ، وَقَدْ وَقَعَ عِنْدَ النَّاسِ أَنَّ إبْصَارَ الصُّوَرِ فِي الْمِرْآةِ بِهَذَا الطَّرِيقِ فَذَكَرَهُ عَلَى مَا وَقَعَ عِنْدَهُمْ تَقْرِيبًا إلَى الْفَهْمِ. وَذُكِرَ فِي بَعْضِ نُسَخِ الْأُصُولِ أَنَّ الْعَكْسَ فِي اللُّغَةِ هُوَ رَدُّ أَوَّلِ الشَّيْءِ إلَى آخِرِهِ وَآخِرِهِ إلَى أَوَّلِهِ، وَأَصْلُهُ شَدُّ رَأْسِ الْبَعِيرِ بِخِطَامِهِ إلَى ذِرَاعِهِ، وَفِي اصْطِلَاحِ الْفُقَهَاءِ وَالْأُصُولِيِّينَ هُوَ انْتِقَاءُ الْحُكْمِ لِانْتِفَاءِ عِلَّتِهِ، وَقِيلَ هُوَ تَعْلِيقُ نَقِيضِ الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ بِنَقِيضِ الْعِلَّةِ الْمَذْكُورَةِ وَرَدُّهُ إلَى أَصْلٍ آخَرَ وَذَلِكَ أَيْ الْعَكْسُ بِالْمَعْنَى الْمَذْكُورِ مِثْلُ قَوْلِنَا فِي أَنَّ الشُّرُوعَ فِي النَّفْلِ فَلَزِمَ مَا يَلْتَزِمُ بِالنَّذْرِ وَيَلْتَزِمُ بِالشُّرُوعِ كَالْحَجِّ وَعَكْسُهُ الْوُضُوءُ يَعْنِي عَكْسَهُ أَنَّ مَا لَا يُلْتَزَمُ بِالنَّذْرِ لَا يُلْتَزَمُ بِالشُّرُوعِ كَالْوُضُوءِ فَعَكَسْت الْحُكْمَ بِقَلْبِ الْوَصْفِ الَّذِي جَعَلْته عِلَّةً فِي الطَّرْدِ.

وَهَذَا أَيْ الْعَكْسُ الْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَمَا أَشْبَهَهُ كَقَوْلِنَا فِي الثَّيِّبِ الصَّغِيرَةِ يُوَلَّى عَلَيْهَا فِي مَالِهَا فَيُوَلَّى عَلَيْهَا فِي نَفْسِهَا كَالْبِكْرِ الصَّغِيرَةِ، وَعَكْسُهُ الثَّيِّبُ الْبَالِغَةُ فَإِنَّهُ لَا يُوَلَّى عَلَيْهَا فِي مَالِهَا فَلَا يُوَلَّى عَلَيْهَا فِي نَفْسِهَا مِمَّا لَا يَصْلُحُ لِتَرْجِيحِ الْعِلَلِ يَعْنِي هَذَا النَّوْعُ مِنْ الْعَكْسِ لَيْسَ بِقَادِحٍ فِي الْعِلَلِ أَصْلًا بَلْ هُوَ يَصْلُحُ مُرَجِّحًا لِلْعِلَّةِ الَّتِي تَطَّرِدُ وَتَنْعَكِسُ عَلَى الَّتِي تَطَّرِدُ، وَلَا تَنْعَكِسُ؛ لِأَنَّ الِانْعِكَاسَ يَدُلُّ عَلَى زِيَادَةِ تَعَلُّقٍ لِلْحُكْمِ بِالْوَصْفِ وَيُوجِبُ زِيَادَةَ قُوَّةٍ فِي ظَنِّ كَوْنِ الْوَصْفِ عِلَّةً.

وَالثَّانِي أَنْ يَرِدَ عَلَى خِلَافِ سُنَنِهِ أَيْ يَرِدُ الْحُكْمُ إلَى خِلَافِهِ لَا عَلَى سُنَنِهِ بَلْ سُنَنٍ غَيْرِ سُنَنِهِ كَذَا لَفْظُ التَّقْوِيمِ وَهَذَا النَّوْعُ لَيْسَ بِعَكْسٍ حَقِيقَةً؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِدَاخِلٍ فِي تَعْرِيفِ الْعَكْسِ بَلْ هُوَ فِي أَقْسَامِ الْقَلْبِ، وَلِهَذَا ذَكَرَهُ صَدْرُ الْإِسْلَامِ وَعَامَّةُ الْأُصُولِيِّينَ فِي أَقْسَامِ الْقَلْبِ، وَلَمْ يَذْكُرُوهُ فِي الْعَكْسِ لَكِنَّهُ لَمَّا كَانَ يُشْبِهُ الْعَكْسَ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ رَدٌّ لِلْحُكْمِ الَّذِي اطَّرَدَ، وَإِنْ كَانَ عَلَى خِلَافِ سُنَنِهِ أَوْرَدَهُ الشَّيْخُ فِي هَذَا الْقِسْمِ مِثْلُ قَوْلِهِمْ هَذَا أَيْ الصَّوْمُ النَّفَلُ عِبَادَةٌ لَا يَمْضِي فِي فَاسِدِهَا يَعْنِي إذَا فَسَدَتْ لَا يَجِبُ، وَلَا يَجُوزُ إتْمَامُهَا وَالْمُضِيُّ فِيهَا، وَاحْتَرَزَ بِهِ عَنْ الْحَجِّ فَإِنَّهُ وَجَبَ بِالشُّرُوعِ؛ لِأَنَّ الْمُضِيَّ يَجِبُ فِيهِ بَعْدَ الْفَسَادِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَلْزَمَ بِالشُّرُوعِ

<<  <  ج: ص:  >  >>