وَمِثْلُ قَوْلِهِمْ قَتْلُ آدَمِيٍّ مَضْمُونٌ فَيُوجِبُ الْمَالَ كَالْخَطَأِ؛ لِأَنَّ ثَمَّةَ الْمِثْلُ غَيْرُ مَقْدُورٍ عَلَيْهِ وَسَبِيلُهُ مَا قُلْنَا أَنْ لَا نُسَلِّمَ قِيَامَ شَرْطِ الْقِيَاسِ وَتَفْسِيرُهُ أَنَّ حُكْمَ الْأَصْلِ شَرَعَ الْمَالَ خَلَفًا عَنْ الْقَوَدِ وَأَنْتَ جَعَلْته مُزَاحِمًا لَهُ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْمُنَاقَضَةَ لَا تَرِدُ عَلَى الْعِلَلِ الْمُؤَثِّرَةِ بَعْدَ صِحَّةِ أَثَرِهَا، وَإِنَّمَا تَبَيَّنَ ذَلِكَ بِوُجُوهٍ أَرْبَعَةٍ، وَهَذَا.
ــ
[كشف الأسرار]
الْإِعْتَاقِ بِحَيْثُ لَا سَبِيلَ إلَى إبْطَالِهِ وَرَدِّ الْعَبْدِ إلَى الرِّقِّ أَصْلًا وَأَنْتَ عَدَّيْت الْإِبْطَالَ أَصْلًا أَيْ أَبْطَلْت الْإِعْتَاقَ فِي الْفَرْعِ مِنْ الْأَصْلِ بِحَيْثُ لَوْ أَجَازَهُ الْمُرْتَهِنُ بَعْدُ لَا يَنْفُذُ فَكَانَ تَغْيِيرًا لِحُكْمِ الْأَصْلِ فِي الْفَرْعِ.
قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْمَبْسُوطِ وَعِتْقُ الْمَرِيضِ عِنْدَنَا لَا يَلْغُوا قِيَامَ حَقِّ الْغُرَمَاءِ، وَلَكِنَّهُ يَخْرُجُ إلَى الْحُرِّيَّةِ بِالسِّعَايَةِ لَا مَحَالَةَ فَهَاهُنَا أَيْضًا يَنْبَغِي أَنْ لَا يَلْغُوَ إلَّا أَنْ هُنَاكَ هُوَ بِمَنْزِلَةِ الْمُكَاتَبِ مَا دَامَ يَسْعَى، وَهَاهُنَا يَكُونُ حُرًّا، وَإِنْ لَزِمَتْهُ السِّعَايَةُ عِنْدَ اعْتِبَارِ الرَّاهِنِ؛ لِأَنَّ الْعِتْقَ فِي الْمَرَضِ وَصِيَّةٌ وَالْوَصِيَّةُ تَتَأَخَّرُ عَنْ الدَّيْنِ إلَّا أَنَّ الْعِتْقَ لَا يُمْكِنُ رَدُّهُ فَيَجِبُ عَلَيْهِ السِّعَايَةُ فِي قِيمَتِهِ لِرَدِّ الْوَصِيَّةِ قَالَ وَبِهَذَا يَتَبَيَّنُ أَنَّ هُنَاكَ الْوَاجِبَ عَلَيْهِ بَدَلُ رَقَبَتِهِ، وَلَا يُسَلَّمُ لَهُ الْمُبْدَلُ مَا لَمْ يَرُدَّ الْبَدَلَ، وَهَاهُنَا السِّعَايَةُ عَلَى الْعَبْدِ لَيْسَتْ فِي بَدَلِ رَقَبَتِهِ بَلْ فِي الدَّيْنِ الَّذِي فِي ذِمَّةِ الرَّاهِنِ؛ لِأَنَّ حَقَّ الْمُرْتَهِنِ ذَلِكَ فَوُجُوبُ السِّعَايَةِ عَلَيْهِ لَا يَكُونُ مَانِعًا نُفُوذَ عِتْقِهِ فِي الْحَالِ وَلِهَذَا قُلْنَا لَوْ أَيْسَرَ الرَّاهِنُ هَذَا رَجَعَ الْعَبْدُ عَلَيْهِ بِمَا أَدَّى مِنْ السِّعَايَةِ، وَهُنَاكَ لَا يَرْجِعُ الْعَبْدُ عَلَى أَحَدٍ بِمَا سَعَى فِيهِ مِنْ قِيمَتِهِ فَإِنْ ادَّعَى أَيْ الْمُعَلَّلَ فِي الْأَصْلِ، وَهُوَ الْبَيْعُ أَوْ إعْتَاقُ الْمَرِيضِ حُكْمًا غَيْرَ مَا قُلْنَا بِأَنْ يَقُولَ حُكْمُ الْبَيْعِ الْبُطْلَانُ لَا التَّوَقُّفُ، وَكَذَا حُكْمُ إعْتَاقِ الْمَرِيضِ فَلَا يَكُونُ فِي هَذَا التَّعْلِيلِ تَغْيِيرُ حُكْمِ الْأَصْلِ لَمْ نُسَلِّمْ؛ لِأَنَّ عِنْدَنَا حُكْمُهُمَا مَا ذَكَرْنَا فَإِنْ وَافَقَنَا فِيهِ يَلْزَمُ التَّغْيِيرُ ضَرُورَةً، وَإِنْ خَالَفَنَا فِيهِ بِأَنْ قَالَ عِنْدِي حُكْمُهُمَا الْبُطْلَانُ يَكُونُ هَذَا رَدَّ الْمُخْتَلِفِ إلَى الْمُخْتَلِفِ، وَهُوَ فَاسِدٌ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عَلَى الْخَصْمِ.
قَوْلُهُ: (وَمِثْلُ قَوْلِهِمْ) أَيْ مِثْلُ تَعْلِيلِ أَصْحَابِ الشَّافِعِيِّ فِي إيجَابِ الدِّيَةِ فِي الْقَتْلِ الْعَمْدِ بِأَنَّهُ قَتْلُ آدَمِيٍّ مَضْمُونٍ فَيُوجِبُ الْمَالَ كَالْقَتْلِ الْخَطَأِ فَإِنْ فَرَّقَ السَّائِلُ بِأَنَّ الْعَمْدَ لَيْسَ كَالْخَطَأِ فِي لُزُومِ الْمَالِ؛ لِأَنَّ وُجُوبَ الْمَالِ فِي الْخَطَأِ بِاعْتِبَارِ تَعَذُّرِ إيجَابِ الْمِثْلِ مِنْ جِنْسِهِ؛ لِأَنَّ الْخَاطِئَ مَعْذُورٌ لِعَدَمِ الْقَصْدِ فَيَصِيرُ إلَى إيجَابِ الْمَالِ خَلَفًا عَنْهُ صَوْنًا لِلدَّمِ عَنْ الْهَدَرِ، وَقَدْ عُدِمَ هَذَا الْمَعْنَى فِي الْفَرْعِ وَهُوَ الْعَمْدُ لِوُجُوبِ الْقِصَاصِ فِيهِ بِالِاتِّفَاقِ، فَهَذَا فَرْقٌ صَحِيحٌ فِي نَفْسِهِ، وَلَكِنَّهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ مِنْ السَّائِلِ فَسَبِيلُهُ أَنْ يَقُولَ لَا أُسَلِّمُ قِيَامَ شَرْطِ الْقِيَاسِ، وَهُوَ عَدَمُ تَغْيِيرِ حُكْمِ الْأَصْلِ. وَتَفْسِيرُهُ أَيْ بَيَانِ عَدَمِ قِيَامِ شَرْطِ الْقِيَاسِ أَنَّ حُكْمَ الْأَصْلِ وَهُوَ الْقَتْلُ خَطَأً شُرِعَ الْمَالُ خَلَفًا عَنْ الْقَوَدِ عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ اسْتِيفَائِهِ، وَأَنْتَ بِهَذَا التَّعْلِيلِ جَعَلْت الْمَالَ مُزَاحِمًا لِلْقَوَدِ حَيْثُ أَثْبَتَهُ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ كَالْقَوَدِ، وَالْخَلَفُ قَطُّ لَا يُزَاحِمُ الْأَصْلَ فَكَانَ هَذَا تَقْلِيلًا يُوجِبُ تَغْيِيرَ حُكْمِ الْأَصْلِ فَكَانَ بَاطِلًا، وَهُوَ نَظِيرُ مَذْهَبِهِ فِي إيجَابِ الْفِدْيَةِ عَلَى الْحَائِضِ مَعَ الصَّوْمِ إذَا أَخَّرْت الْقَضَاءَ إلَى السَّنَةِ الثَّانِيَةِ فَإِنَّهُ جَعَلَ الْفِدْيَةَ الَّتِي هِيَ خَلَفٌ عَنْ الصَّوْمِ مُزَاحِمًا لَهُ فِي الْوُجُوبِ حَيْثُ أَوْجَبَهُمَا جَمِيعًا.
وَقَدْ بَيَّنَّا يَعْنِي فِي أَوَّلِ بَابِ دَفْعِ الْعِلَلِ أَنَّ الْمُنَاقَضَةَ الْحَقِيقِيَّةَ لَا تَرِدُ عَلَى الْعِلَلِ الْمُؤَثِّرَةِ بَعْدَ صِحَّةِ أَثَرِهَا؛ لِأَنَّ تَأْثِيرَهَا لَا يَثْبُتُ إلَّا بِدَلِيلٍ مُجْمَعٍ عَلَيْهِ، وَمِثْلُ ذَلِكَ الدَّلِيلُ لَا يَقْبَلُ النَّقْضَ، وَإِنَّمَا يَرُدُّ الْمُنَاقَضَةَ عَلَى الْعِلَلِ الطَّرْدِيَّةِ؛ لِأَنَّ دَلِيلَ صِحَّتِهَا الِاطِّرَادُ وَبِالْمُنَاقَضَةِ لَمْ يَبْقَ الْإِطْرَادُ، وَلَكِنْ قَدْ يَرِدُ النَّقْضُ صُورَةً عَلَى الْعِلَلِ الْمُؤَثِّرَةِ فَيَحْتَاجُ إلَى دَفْعِهِ بِبَيَانِ أَنَّهُ لَيْسَ بِنَقْضٍ، وَإِنَّمَا نُبَيِّنُ ذَلِكَ أَيْ عَدَمَ وُرُودِ النَّقْضِ عَلَى الْعِلَلِ الْمُؤَثِّرَةِ حَقِيقَةً، وَإِنْ يَتَرَاءَى نَقْضًا صُورَةً بِطُرُقٍ أَرْبَعَةٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute